التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ
١١
وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ
١٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٣
أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
-الأحقاف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الحجاز وابن عامر ويعقوب لتنذر بالتاء والباقون بالياء وقرأ أهل الكوفة إحساناً والباقون حسناً، وروي عن علي (ع) وأبي عبد الرحمن السلمي حسناً بفتح الحاء والسين وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو والكسائي كرهاً بفتح الكاف والباقون بضمّها، وقرأ يعقوب وفصله وهو قراءة الحسن وأبي رجاء وعاصم والجحدري والباقون وفصاله.
الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ لتنذر بالتاء قوله إنما أنت منذر وقوله لتنذر به وذكرى وحجة الياء لينذر بأساً شديداً أو أسند الإنذار إلى الكتاب كما أسنده إلى الرسول وأما الباء في قوله بوالديه فيجوز أن يتعلق بوصّينا بدلالة قوله ذلكم وصاكم به ويجوز أن يتعلق بالإحسان ويدلّ عليه قوله
{ { وقد أحسن بي إذ أخرجني } [يوسف: 100] ولا يجوز أن يتعلق في الآية بالإحسان لتقدمها على الموصول ولكن يجوز أن تعلقه بمضمر يفسّره الإحسان كما جاز في نحو قوله { وكانوا فيه من الزاهدين } [يوسف: 20] وقوله:

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

في قول من لم يعلقه بالجزاء. والإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبح فمن قال إحساناً كان انتصابه على المصدر وذلك أن معنى قوله { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً } أمرناه بالإحسان أي ليأتي الإحسان إليهما دون الإساءة ولا يجوز أن يكون انتصابه بوصّينا لأن وصّينا قد استوفى مفعوليه اللذين أحدهما منصوب والآخر المتعلق بالباء ومن قرأ حسناً فمعناه ليأت في أمرهما أمراً ذا حسن أي ليأت الحسن في أمرهما دون القبيح ويؤيده قراءة عليّ صلوات الرحمن عليه حَسَنا لأنّ معناه ليأت في أمرهما فعلاً حسناً وأما الكره بالفتح فهو المصدر والكره بالضم الاسم كأنه الشيء المكروه قال { { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [البقرة: 216] وهذا بالضم وقال { { أن ترثوا النسآء كُرهاً } [النساء: 19] فهذا في موضع الحال والفتح فيه أحسن وقد قيل أنهما لغتان وأما الفصل فهو بمعنى الفصال إلا أن الأكثر بالألف وفي الحديث: "لا رضاع بعد الفصال" يعني بعد الفطام.
اللغة: القديم ما تقادم وجوده وفي عرف المتكلمين هو الموجود الذي لا أول لوجوده والإيزاع أصله المنع وأوزعني أمنعني عن الانصراف عن ذلك باللطف ومنه قول الحسن لا بد للناس من وَزَعَةٍ وقال أبو مسلم الإيزاع إيصال الشيء إلى القلب.
الإعراب: إماماً منصوب على الحال من الضمير في الظرف عند سيبويه ومن كتاب موسى عند الأخفش ومن رفع بالظرف ويجوز أن يرتفع قوله { كتاب موسى } بالعطف على قوله { وشهد شاهد من بني إسرائيل } أي وشهد من قبل القرآن كتاب موسى ففصل بالظرف بين الواو والمعطوف به ورحمة معطوف على قوله إماماً ولساناً عربياً منصوب على الحال أيضاً من قوله { هذا كتاب } ويجوز أن يكون حالاً مما في مصدّق من الضمير وتقديره وهذا كتاب مصدق ملفوظاً به على لسان العرب وبشرى عطف على قوله { لينذر } وهو مفعول له جزاء مصدر مؤكّد لما قبله وتقديره جُوزُوا جزاء فاستغنى عن ذكر جُوزوا لدلالة الجملة قبلها عليها ويجوز أن يكون جزاء مفعولاً له وكرهاً منصوب على الحال أي حملته كارهة.
المعنى: ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين جحدوا وحدانيته فقال { وقال الذين كفروا للذين آمنوا } بالله ورسوله { لو كان خيراً ما سبقونا إليه } أي لو كان هذا الذي يدعونا إليه محمد خيراً أي نفعاً عاجلاً أو آجلاً ما سبقنا هؤلاء الذين آمنوا به إلى ذلك لأنّا كنّا بذلك أولى، واختلف فيمن قال ذلك فقيل هم اليهود قالوا لو كان دين محمد صلى الله عليه وسلم خيراً ما سبقنا إليه عبد الله بن سلام عن أكثر المفسرين وقيل: إنّ أسلم وجهينة ومزينة وغفاراً لما أسلموا قال بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع هذا القول عن الكلبي ونظم الكلام يوجب أن يكون ما سبقتمونا إليه ولكنه على ترك المخاطبة.
{ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } أي فإذا لم يهتدوا بالقرآن من حيث لم يتدّبروه فسيقولون هذا القرآن كذب متقادم أي أساطير الأولين.
ثم قال سبحانه { ومن قبله كتاب موسى } أي من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة { إماماً } يقتدى به { ورحمة } من الله للمؤمنين به قبل القرآن وتقدير الكلام وتقدمه كتاب موسى إماماً وفي الكلام محذوف يتم به المعنى تقديره فلم يهتدوا به ودلّ عليه قوله في الآية الأولى وإذ لم يهتدوا به وذلك أنّ المشركين لم يهتدوا بالتوراة فيتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان ويعرفوا منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال { وهذا كتاب } يعني القرآن { مصدق } للكتب التي قبله { لساناً عربيّاً } ذكر اللسان توكيداً كما تقول جاءني زيد رجلاً صالحاً فتذكر رجلاً توكيداً { لتنذر الذين ظلموا } أي لتخوّفهم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ومن قرأ بالياء أسند الفعل إلى الكتاب { وبشرى للمحسنين } وبشارة للمؤمنين. وقيل: معناه ويبشر بشرى فيكون نصباً على المصدر ويجوز أن يكون في موضع رفع أي وهو بشرى للمحسنين الموحدين.
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثمّ استقاموا } مر تفسيره { فلا خوف عليهم } من العقاب { ولا هم يحزنون } من أهوال يوم القيامة { أولئك أصحاب الجنة } الملازمون لها المنعّمون فيها { خالدين فيها جزآء بما كانوا يعملون } في الدنيا من الطاعات والأعمال الصالحات.
{ ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً } مر تفسيره { حملته أمه كرهاً } أي بكره ومشقّة عن الحسن وقتادة ومجاهد يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد { ووضعته كرهاً } يريد به شدة الطلق عن ابن عباس { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } يريد أنّ أقل مدة الحمل وكمال مدّة الرضاع ثلاثون شهراً قال ابن عباس إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت أحداً وعشرين شهراً وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً { حتى إذا بلغ أشدّه } وهو ثلاث وثلاثون سنة عن ابن عباس وقتادة. وقيل: بلوغ الحلم عن الشعبي. وقيل: وقت قيام الحجة عليه عن الحسن. وقيل: هو أربعون سنة وذلك وقت إنزال الوحي على الأنبياء.
ولذلك فسّر به فقال { وبلغ أربعين سنة } فيكون هذا بياناً لزمان الأشد وأراد بذلك أنه يكمل له رأيه ويجتمع عليه عقله عند الأربعين سنة { قال رب أوزعني } أي ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه } قد مرّ تفسيره في سورة النمل { وأصلح لي في ذرّيتي } أي اجعل ذريتي صالحين عن الزجاج. وقيل: إنه دعاء بإصلاح ذرّيته لبرّه وطاعته لقوله أصلح لي. وقيل: إنه الدعاء بإصلاحهم لطاعة الله عزّ وجلّ وهو عبادته وهو الأشبه لأنّ طاعتهم لله من برّه لأن اسم الذرية يقع على من يكون بعده. وقيل: معناه اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق عن سهل بن عبد الله { إني تبت إليك } من سيّئاتي وذنوبي { وإنّي من المسلمين } المنقادين لأمرك.