القراءة: قرأ يعقوب لا تقدموا بفتح التاء والدال والباقون لا تقدموا بضم التاء وكسر الدال وقرأ أبو جعفر الحجرات بفتح الجيم والباقون بضمها.
الحجة: قال ابن جني معناه لا تفعلوا ما تؤثرونه وتتركوا ما أمركم الله ورسوله به وهذا معنى القراءة المشهورة لا تقدموا أي لا تقدموا أمراً على ما أمركم الله به فالمفعول هنا محذوف كما ترى ومن قرأ الحجرات أبدل من الضمة فتحة استثقالاً بتوالي الضمتين ومنهم من أسكن فقال الحجرات مثل عضد وعضد وقال أبو عبيدة حجرات جمع حجر فهو جمع الجمع.
اللغة: قدم تقديماً وأقدم إقداماً واستقدم وقدم كل ذلك بمعنى تقدم والجهر ظهور الصوت بقوة الاعتماد ومنه الجهارة في المنطق وجاهر بالأمر مجاهرة ويقال جهاراً ونقيض الجهر الهمس والحروف المجهورة تسعة عشر حرفاً يجمعها قولك: "أطلقن ضرغم عجز ظبي ذواد" وما عداها من الحروف مهموس يجمعها قولك: "حث فسكت شخصه" والغض الحط من منزلة على وجه التصغير يقال غض فلان إذا صغّر حالة من هو أرفع منه وغض بصره إذا ضعّفه عن حدة النظر قال جرير:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنّكَ مِن نَمير فَلا كَعْبــاً بَلَغْـــتَ وَلا كِلابا
الإعراب: أن تحبط أعمالكم في محل النصب لأنه مفعول له ويجوز أن يكون في محل جر باللام المقدرة أي لأن تحبط أعمالكم. وقيل: تقديره كراهة أن تحبط أو حذارِ أن تحبط.
النزول: نزل قوله { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم } إلى قوله { غفور رحيم } في وفد تميم وهم عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم في وفد عظيم فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات أن أخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فقالوا: جئناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا فقال: "قد أذنت" فقام عطارد بن حاجب وقال: الحمد لله الذي جعلنا ملوكاً الذي له الفضل علينا والذي وهب علينا أموالاً عظاماً نفعل بها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثر عدداً وعدة فمن مثلنا في الناس فمن فاخرنا فليعدّ مثل ما عددنا ولو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكنا نستحي من الإكثار ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس: "قم فأجبه" فقام فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يكن شيء قط إلا من فضله ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكاً واصطفى من خير خلقه رسولاً أكرمهم نسباً وأصدقهم حديثاً وأفضلهم حسباً فأنزل الله عليه كتاباً وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله على العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه أكرم الناس أحساباً وأحسنهم وجوهاً فكان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن فنحن أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وردؤه نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه ومن نكث جاهدناه في الله أبداً وكان قتله علينا يسيراً أقول هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم.
ثم قام الزبرقان بن بدر ينشد وأجابه حسان بن ثابت فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع: إن هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا فلما فرغوا أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم وأسلموا عن ابن إسحاق. وقيل: إنهم أناس من بني العنبر كان النبي صلى الله عليه وسلم أصاب من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يقولون يا محمد أخرج إلينا عن أبي حمزة الثمالي عن عكرمة عن ابن عباس.
المعنى: { يا أيها الذين آمنوا } روى زرارة عن أبي جعفر (ع) أنه قال: ما سلت السيوف ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف ولا جهر بأذان ولا أنزل الله يا أيها الذين آمنوا حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } بين اليدين عبارة عن الإمام لأن ما بين يدي الإنسان أمامه ومعناه لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله ولا تعجلوا به.
قال أبو عبيدة: العرب تقول لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجل بالأمر دونه والنهي وقدم هنا بمعنى تقدم وهو لازم. وقيل: معناه لا تقدموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله ورسوله به حتى أنه قيل لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها عن الزجاج. وقيل: لا تمكنوا أحداً يمشي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كونوا تبعاً له وأخروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله. وقال الحسن: نزل في قوم ذبحوا الأضحيّة قبل صلاة العيد فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة وقال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا قبل كلامه أي إذا كنتم جالسين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فسئل عن مسألة فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب النبي صلى الله عليه وسلم أولاً. وقيل: معناه لا تسبقوه بقول ولا فعل حتى يأمركم به عن الكلبي والسدّي والأولى حمل الآية على الجميع فإن كل شيء كان خلافاً لله ورسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي الله ورسوله وذلك ممنوع.
{ واتقوا الله } أي اجتنبوا معاصيه { إن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بأعمالكم فيجازيكم بها { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } لأن فيه أحد الشيئين إما نوع استخفاف به فهو الكفر وإما سوء الأدب فهو خلاف التعظيم المأمور به { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أي غضوا أصواتكم عند مخاطبتكم إياه وفي مجلسه فإنه ليس مثلكم إذ يجب تعظيمه وتوقيره من كل وجه. وقيل: معناه لا تقولوا له يا محمد كما يخاطب بعضكم بعضاً بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل وقولوا يا رسول الله.
{ أن تحبط أعمالكم } أي كراهة أن تحبط أو لئلا تحبط أعمالكم. وقيل: إنه في حرف عبد الله فتحبط أعمالكم { وأنتم لا تشعرون } أي وأنتم لا تعلمون أنكم أحبطتم أعمالكم بجهر صوتكم على صوته وترك تعظيمه قال أنس لما نزلت هذه الآية قال ثابت بن قيس أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي وأنا من أهل النار وكان ثابت رفيع الصوت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو من أهل الجنة.
وقال أصحابنا: إن المعنى في قوله أن تحبط أعمالكم أنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره لا ستحقوا الثواب فلما فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية ولأنه تعالى علق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل وهم يعلقونه بالمستحق على العمل وذلك خلاف الظاهر.
ثم مدح سبحانه من يعظم رسوله ويوقره فقال { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } أي يخفضون أصواتهم في مجلسه إجلالاً { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي اختبرها فأخلصها للتقوى عن قتادة ومجاهد أخذ من امتحان الذهب بالنار إذا أذيب حتى يذهب غشه ويبقى خالصه. وقيل: معناه أنه علم خلوص نياتهم لأن الإنسان يمتحن الشيء ليعلم حقيقته. وقيل: معناه عاملهم معاملة المختبر بما تعبدهم به من هذه العبادة فخلصوا على الاختبار كما يخلص جيّد الذهب بالنار.
{ لهم مغفرة } من الله لذنوبهم { وأجر عظيم } على طاعتهم.
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } وهم الجفاة من بني تميم لم يعلموا في أي حجرة هو فكانوا يطوفون على الحجرات وينادونه { أكثرهم لا يعقلون } وصفهم الله سبحانه بالجهل وقلة الفهم والعقل إذا لم يعرفوا مقدار النبي صلى الله عليه وسلم ولا ما استحقه من التوقير فهم بمنزلة البهائم { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } من أن ينادونك من وراء الحجرات في دينهم بما يحرزونه من الثواب وفي دنياهم باستعمالهم حسن الأدب في مخاطبة الأنبياء ليعدّوا بذلك في زمرة العقلاء. وقيل: معناه لأطلقت أسراهم بغير فداء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبى قوماً من بني العنبر فجاءوا في فدائهم فأعتق نصفهم وفادى النصف فيقول ولو أنهم صبروا لكنت تعتق كلهم { والله غفور رحيم } لمن تاب منهم.