التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: روي في الشواذ عن الحسن والشعبي والأَعرج شهادةٌ بينكم وعن الأَعرج أيضاً شهادةً بينكم بالنصب وروي عن علي والشعبي بخلاف ونعيم بن ميسرة أنهم قرؤوا شهادةً آلله بنصب شهادة والمد في الله وهو قراءة يعقوب والشعبي برواية روح وزيد وروي شهادة الله مقصورة عن الحسن ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير والكلبي والشعبي.
الحجة: أما قول شهادةٌ بالرفع بينكم بالنصب فعلى نحو القراءة المشهورة شهادةُ بينكم إلا أنه حذف التنوين فانجر الاسم ويجوز أن يكون المضاف محذوفاً من آخر الكلام أي شهادة بينكم شهادة اثنين أي ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا وأما شهادة بينَكم بالنصب والتنوين فعلى إضمار فعل أي ليقم شهادة بينكم اثنان ذوا عدل وأما قولـه: { ولا نكتم شهادة } فهو أعم من قراءة الجماعة المشهورة شهادةَ الله بالإِضافة وأما المد في الله فعلى أن همزة الاستفهام صارت عوضاً من حرف القسم ووقوا همزة الله من الحذف الذي كان يجب فيها من حيث كانت موصولة ثم فصل بين الهمزتين بألف كما في قولـه:
{ { آلذكرين حَرَّم أم الأُنثيين } [الأنعام: 143] وأما الله مقصورة بالجر فعلى ما حكاه سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام فيقول الله لقد كان كذا وذلك لكثرة الاستعمال وأما تقدير الكلام فعلى أنه يقول أتقسم بالله أي أتقدم على هذا اليمين وهذا إنما يكون على وجه الإِعظام لليمين والتهيّب لها.
الإِعراب: قال الزجاج شهادة بينكم يرتفع من وجهين أحدهما: أن يرتفع بالابتداء ويكون خبرها اثنان والمعنى شهادة هذه الحال شهادة اثنين فيحذف شهادة ويقام اثنان مقامها والآخر: أن يكون التقدير وفيما فرض عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان فيرتفع اثنان بشهادة وهو قول الفراء واختار أبو علي الفارسي القول الأَول قال واتسع في بين فأضيف إليه المصدر وهذا يدل على قول من قال إن الظرف يستعمل اسماً في غير الشعر ألا ترى أنه قد جاء ذلك في التنزيل وهو لقد تقطع بينكم بالرفع كما جاء في الشعر نحو قولـه:

فَصادفَ بَيْن عينيه للحُبُونا

وأما قولـه: { إذا حضر أحدكم الموت } فيجوز أن يتعلق بالشهادة فيكون معمولها ولا يجوز أن يتعلق بالوصية لأَمرين أحدهما: أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف لأَنه لو عمل فيه للزم أن يقدر وقوعه في موضعه وإذا قدر ذلك لزم أن يقدم المضاف إليه على المضاف ومن ثم لم يجز القتال زيداً حين يأتي والآخر: أن الوصية مصدر فلا يتعلق به ما يتقدم عليه وأما قولـه: { حين الوصية اثنان } فلا يجوز حمله على الشهادة لأَنه إذا عمل في ظرف من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه ولكن يحمله على أحد ثلاثة أوجه إمَّا أن يتعلق بالموت كأنه يموت في ذلك الحين وهذا إنما يكون على ما قرب منه كقولـه: { { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } [النساء: 18] وهذا القول إنما يكون قبل الموت وإمَّا أن يتعلق بحضر أي إذا حضر هذا الحين وإمَّا أن يكون محمولاً على البدل من إذا لأَن ذلك الزمان في المعنى هو هذا الزمان فتبدله منه كما تبدل الشيء من الشيء إذا كان إياه وقولـه منكم صفة لقولـه اثنان كما أن ذوا عدل صفة لهما وفي الظرف ضميرهما.
وقولـه { أو آخران من غيركم } تقديره أو شهادة آخريِن من غيركم ومن غيركم صفة لآخرين كما كان منكم صفة لاثنين إن أنتم ضربتم في الأَرض فأصابتكم مصيبة الموت اعتراض بين الصفة والموصوف وعلم به أن شهادة الآخرين اللذين هما من غير أهل ملتنا إنما يجوز في السفر فاستغنى عن جواب إنْ بما تقدم من قولـه: أو آخران من غيركم لأَنه وإن كان على لفظ الخبر فالمعنى على الأَمر كأن المعنى ينبغي أن تشهدوا إذا ضربتم في الأَرض آخرين من غير أهل ملتكم ويجوز أيضاً أن يستغنى عن جواب إذا في قولـه: { إذا حضر أحدكم الموت } بما تقدمها من قولـه: { شهادة بينكم } فإن جعلت إذا بمنزلة حين فلم تجعل له جواباً كان بمنزلة الحين وينتصب الموضع بالمصدر الذي هو شهادة بينكم كما تقدم وإن قدرت له جواباً كان قولـه: شهادة بينكم يدل عليه ويكون موضع إذا في قولـه: { إذا حضر أحدكم الموت } نصباً لجواب المقدر المستغنى عنه بقولـه شهادة بينكم لأَن المعنى ينبغي أن تشهدوا وقولـه { تحبسونهما } من بعد الصلاة صفة ثانية لقولـه أو آخران وقولـه { من بعد الصلاة } يتعلق بتحبسونهما فيقسمان بالله الفاء لعطف الجملة على الجملة وإن شئت جعلت الفاء للجزاء كما في قول ذي الرمة:

وَإنْسَانُ عَيْني يَحْبِسُ الْمَاءَ مَرَّةً فَيَبْـــدُو وتاراتٍ يَجُمُّ فَيُغْرِقُ

تقديره عندهم إذا حبس بدا فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقولـه { لا نشتري به ثمناً } جواب ما يقتضيه قولـه: فيقسمان بالله لأَن أقسم ونحوه يتلقى بما يتلقى به الإِيمان والتقدير لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمناً أي ذا ثمن فحذف المضاف في الموضعين وإنما ذكر الشهادة لأَن الشهادة قول كما قال وإذا حضر القسمة ثم قال فارزقوهم منه لما كان القسمة يراد به المقسوم ألا ترى أن القسمة التي هي إفراز الانصباء لا يرزق منه وإنما يرزق من التركة المقسومة ولو كان ذا قربى التقدير ولو كان المشهود له ذا قربى وأضاف الشهادة إلى الله لأَمره بإقامتها ونهيه عن كتمانها في قولـه: { وأقيموا الشهادة لله } } [الطلاق: 2] وقولـه: { من يكتمها فإنه آثم قلبه } [البقرة: 283]، هذا كلّه مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي وناهيك به فارساً في هذا الميدان نقاباً يخبر عن مكنون هذا العلم بواضح البيان.
النزول: سبب نزول هذه الآية أن ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجاراً إلى الشام تميم ابن أوس الداري وأخوه عدي وهما نصرانيان وابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص السهميَ وكان مسلماً حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية فكتب وصيَّته بيده ودسَّها في متاعه وأوصى إليهما ودفع المال إليهما. وقال: أبلغا هذا أهلي فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال إلى الورثة فلما فتش القوم المال فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيها تامّاً فكلموا تميماً وصاحبه فقالا: لا علم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية عن الواقدي عن أسامة بن زيد عن أبيه وعن جماعة المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر (ع).
المعنى: لمَّا قدم الأَمر بالرجوع إلى ما أنزل عقَّبه بذكر هذا الحكم المنزل. فقال: { يا أيها الذين آمنوا } أي يا أيها المؤمنون { شهادة بينكم }. قيل في معنى الشهادة هنا أقوال: أحدها: أنها الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام وقد تقدم ذكر ما قيل في تقدير الآية على هذا المعنى وهو قول ابن عباس وثانيها: إنها بمعنى الحضور. كما يقال شهدت وصية فلان ومنه قولـه:
{ { وليشهد عذابهما طائفة } [النور: 2] { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } [البقرة: 133] فيكون تقديره ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت وأردتم الوصية اثنان ذوا عدل منكم أي وصيّان من أهل العدالة جعلهما اثنين تأكيداً للأَمر في الوصية عن ابن الأَنباري وهو قول سعيد بن جبير وابن زيد والثالث: أنها شهادة إيمان بالله أن ارتاب الورثة بالوصيين من قول القائل في اللعان أشهد بالله أني لمن الصادقين والأَول أقوى وأليق بالآية. وقال صاحب كتاب نظم القرآن: شهادة مصدر بمعنى الشهود. كما يقال رجل عدل ورضا ورجلان عدل ورضا ثم قدّر حذف المضاف فيكون المعنى عدد شهود بينكم اثنان كقولـه: { { الحج أشهر معلومات } [البقرة: 197] أي: وقت الحج أشهر.
وقال ابن جني: ويجوز أن يكون التقدير تقيموا شهادة بينكم اثنان فيكون على هذين القولين حذف المضاف من المبتدأ وعلى قول الزجاج وأبي علي من الخبر.
{ إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } أي حضر أسباب الموت من مرض وغيره وقال الزجاج: معناه أن الشهادة في وقت الوصية هي للموت ليس أن الموت حاضر وهو يوصي إنما يقول الموصي صحيحاً كان أو غير صحيح إذا حضرني الموت وإذا متُّ فافعلوا واصنعوا { اثنان ذوا عدل منكم } أي من أهل دينكم وملتكم { أو آخران من غيركم } أي من غير أهل ملتكم عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن زيد وإبراهيم وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام فيكون أو ها هنا للتفصيل لا للتخيير لأَن المعنى أو آخران من غيركم إن لم تجدوا شاهدين منكم. وقيل: معناه { ذوا عدل } من عشيرتكم { أو آخران } من غير عشيرتكم عن الحسن والزهري وعكرمة والأَصم وقالوا لأَن عشيرة الموصي أعلم بأحواله من غيرهم وأجدر أن لا ينسوا ما شهدوا عليه وقالوا لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر واختاره الزجاج وذهب جماعة إلى أن الآية كانت في شهادة أهل الذمة فنسخت وقد بيَّن أبو عبيدة هذه الأَقاويل ثم قال جُلّ العلماء يتأوَّلونها في أهل الذمة ويرونها محكمة ويقوّي هذا القول تتابع الآثار في سورة المائدة بقلة المنسوخ وأنها من محكم القرآن وآخر ما نزل.
{ إن أنتم ضربتم في الأَرض فأصابتكم مصيبة الموت } معناه فأصابكم الموت علم الله تعالى أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من المسلمين. فقال: { أو آخران من غيركم } أي غير دينكم إن أنتم سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر إن أمكن اشهادهما في السفر والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما.
ثم قال { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم } المعنى تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأَن الناس كانوا يحلفون بالحجاز بعد صلاة العصر لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت وهو المرويّ عن أبي جعفر (ع) وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم. وقيل: هي صلاة الظهر أو العصر عن الحسن. وقيل: بعد صلاة أهل دينهما يعني الذميين عن ابن عباس والسدي ومعنى تحبسونهما تقفونهما كما تقول مرَّ بي فلان على فرس فحبس على دابته أي وقفه. وقيل: معناه تصبرونهما على اليمين وهو أن يحمل على اليمين وهو غير متبرع بها إن ارتبتم في شهادتهما وشككتم وخشيتم أن يكونا قد غيَّرا أو بدَّلا أو كتما وخانا والخطاب في { تحبسونهما } للورثة ويجوز أن يكون خطاباً للقضاة ويكون بمعنى الأَمر أي فاحبسوهما ذكره ابن الأَنباري وكان يقف على قولـه: مصيبة الموت ويبتدي بقولـه { تحبسونهما } ويحتمل أن يكون أراد به وصي الميت إذا ارتاب بهما الورثة وادَّعوا أنهما استبدَّا بشيء من التركة فيصيران مدعى عليهما فيحلفان بالله { لا نشتري به ثمناً } أي لا نشتري بتحريف الشهادة ثمناً والتقدير لا نشتري به ذا ثمن ألا ترى أن الثمن لا يشترى وإنما يشترى المبيع دون ثمنه. وقيل: إن الهاء في به يعود إلى القسم بالله. وقيل: معناه لا نبيعه بعَرض من الدنيا لأَنَّ من باع شيئاً فقد اشترى ثمنه ويريد لا نُحابي في شهادتنا أحداً { ولو كان } المشهود له { ذا قربى } خصَّ ذا القربى بالذكر لميل الناس إلى أقربائهم ومن يناسبونه { ولا نكتم شهادة الله } أي شهادة لزمنا أداؤها بأمر الله تعالى { إنا إذاً لمن الآثمين } أي إنا فعلنا ذلك كنا من الآثمين.