التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١١٠
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم ساحر مبين بالألف وكذلك في سورة يونس وهود والصف وقرأ ابن كثير وعاصم في سورة يونس لساحر مبين بالألف فقط وقرأ أهل المدينة والبصرة والشام سحر مبين بغير الألف في جميع ذلك.
الحجة: من قرأ إلا سحر جعله إشارة إلى ما جاء به. كأنه قال: ما الذي جئت به إلا سحر مبين ومن قرأ إلا ساحر أشار إلى الشخص لا إلى الحديث الذي أتى به وكلاهما حسن لاستواء كل واحد منهما في أن ذكره قد تقدم غير أن الاختيار سحر لوقوعه على الحدث والشخص أما وقوعه على الحدث فظاهر وأما وقوعه على الشخص فهو أن يراد به ذو سحر كما جاء ولكن البرَّ من آمن أي ذا البر وقالوا إنما أنت سير وإنما هي إقبال وإدبار وقد جاء أيضاً فاعل يراد به الكثرة في حروف ليست بالكثيرة نحو عائذاً بالله من شَرِّها أي عياذاً ونحو العافية ولم تصر هذه الحروف من الكثرة بحيث يقاس عليها.
الإعراب: العامل في إذ يحتمل أمرين أحدهما: الابتداء عطفاً على قولـه: يوم يجمع الله الرسل ثم قال: وذلك إذ قال: فيكون موضعه رفعاً كما يقول القائل كأنك بنا قد وردنا بلد كذا وصنعنا فيه وفعلنا إذ صاح بك صائح فأجبته وتركتني والثاني: اذكر { إذ قال الله } فيكون موضعه نصباً { يا عيسى ابن مريم } يجوز أن يكون عيسى مضموماً في التقدير فإنه منادى مفرد فيكون نداءين وتقديره يا عيسى يا بن مريم أو تكون وصفت المضموم بمضاف فنصب المضاف كقول الشاعر:

يا زبرقان أخا بني خلفٍ

ويجوز أن يكون عيسى مبنياً مع الابن على الفتح في التقدير لوقوع الابن بين علمين وهذا كما أنشد النحويون من قول الشاعر:

يا حَكَمَ بْنَ المُنْذَرِ بْنِ الجــارُودْ أَنْتَ الجَوادُ بْنُ الجَوادِ بْنِ الجُودْ

روي في حكم الضم والفتح تكلم الناس في موضع نصب على الحال وكهلاً عطف على موضع في المهد وهو جملة ظرفية في موضع نصب على الحال من تكلم فالمعنى مكلماً الناس صغيراً وكبيراً.
المعنى: لَمَّا عَرَّف سبحانه يوم القيامة بما وصفه به من جمع الرسل فيه عطف عليه بذكر المسيح فقال: { إذ قال الله } ومعناه إذ يقول الله في الآخرة وذكر لفظ الماضي تقريباً للقيامة لأن ما هو آت فكأنَّ قد وقع { يا عيسى ابن مريم } وهذا إشارة إلى بطلان قول النصارى لأنَّ من له أُمٌّ لا يكون إلهاً { اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } أي اذكر ما أنعمت به عليك وعلى أُمِّك واشكره أفرد النعمة في اللفظ ويريد به الجمع كما قال تعالى:
{ وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها } [إبراهيم: 34] وإنما جاز ذلك لأنه مضاف فصلح للجنس ثم فَسَّر نعمته بأن قال: { إذ أيدتك بروح القدس } وهو جبرائيل (ع) وقد مضى تفسيره في سورة البقرة عند قولـه: { { وأيدناه بروح القدس } [البقرة: 87] { تكلم الناس في المهد وكهلاً } أي في حال ما كنت صبيّاً في المهد وفي حال ما كنت كهلاً. وقال الحسن: المهد حجر أمه.
{ وإذ علمتك الكتاب }. قيل: الكتابة يعني الخط { والحكمة } أي العلم والشريعة. وقيل: أراد الكتب فيكون الكتاب اسم جنس ثم فَصَّله بذكر التوراة والإنجيل. فقال { والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني } أي واذكر ذلك أيضاً إذ تُصَوّر الطين كهيئة الطير الذي تريد أي كخلقته وصورته وسَمَّاه خلقاً لأنه كان يُقَدِّره وقولـه: { بإذني } أي تفعل ذلك بإذني وأمري { فتنفخ فيها } أي تنفخ فيها الروح لأن الروح جسم يجوز أن ينفخه المسيح بأمر الله { فتكون طيراً بإذني } والطير يؤنث ويذكر فمن أنث فعلى الجمع ومن ذكر فعلى اللفظ وواحد الطير طائر فيكون مثل ظاعن وظعن وراكب وركب وبيَّن بقولـه فيكون طيراً بإذني أنه إذا نفخ المسيح فيها الروح قلّبها الله لحماً ودماً ويخلق فيها الحياة فصارت طائراً بإذن الله أي بأمره وإرادته لا بفعل المسيح.
{ وتبرىء } أي تصحِّح { الأكمه } الذي ولد أعمى { والأبرص } من به برص مستحكم { بإذني } أي بأمري ومعناه أنك تدعوني حتى أبرىء الأكمه والأبرص ونسب ذلك إلى المسيح لما كان بدعائه وسؤاله { وإذ تخرج الموتى بإذني } أي اذكر إذ تدعوني فأحيي الموتى عند دعائك وأخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس إحياء ونسب ذلك إلى المسيح لما كان بدعائه { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } عن قتلك وأذيتك { إذ جئتهم } أي حين جئتهم { بالبينات } مع كفرهم وعنادهم ويجوز أن يكون تعالى كَفَّهم عنه بألطافه التي لا يقدر عليها غيره ويجوز أن يكون كَفَّهم بالمنع والقهر كما منع من أراد قتل نبينا ومعنى جئتهم بالبينات أتيتهم بالحجج والمعجزات.
{ فقال الذين كفروا } وجحدوا نبوتك { منهم } أي من بني إسرائيل { إن هذا إلا سحر مبين } يعنون به عيسى وسحر مبين يعني به أن ما جاء به سحر ظاهر واضح وينبغي أن يكون قولـه: سبحانه في أول الآية { إذ قال الله يا عيسى اذكر نعمتي } يعني أخبر بها قومك الذين كذَّبوا عليك ليكون حجة عليهم لأنهم ادّعوا عليه أنه إله ثم عدَّد النعمة نعمة نعمة على ما بيَّناه.