التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١١٦
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١١٧
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١١٨
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: النفس تقع على وجوه فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان وهي التي إذا فارقها خرج من كونه حياً ومنه قولـه: { { كل نفس ذائقة الموت } [آل عمران: 185] والنفس أيضاً ذات الشيء الذي يخبر عنه كقولـهم فعل ذلك فلان نفسه والنفس أيضاً الإرادة كما في قول الشاعر:

فَنَفْسايَ نَفْسٌ قالَتِ ائتِ ابْنَ بَحدَلٍ تَجِدْ فَرَجاً مِنْ كُلّ غمَّى تهابُها
وَنَفْسٌ تَقُولُ اجْهَدْ بِخائِك لا تكنْ كخاضِبَةٍ لَمْ يُغْنِ شَيْئاً خِضابُها

وقال النمر بن تولب:

أمَّا خَليلي فَإنّي لَسْـــتُ مُعْجِـلُهُ حَتَّـى يُؤامِـرُ نَفْسَيْــهِ كَما زَعَما
نَفْسٌ لَهُ مِنْ نُفُوسِ الْقَوْمِ صالِحَةٌتُعْطي الْجَزيلَ ونَفْسٌ تَرْضَعُ الغَنَما

يريد أنه بين نفسين نفس تأمره بالجود وأخرى تأمره بالبخل وكنى برضاع الغنم عن البخل كما يقال: لئيم راضع والنفس العين التي تصيب الإنسان وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي فيقول: " "بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء هو فيك من كل عين عاين ونفس نافس وحسد حاسد" . قال ابن الأعرابي: النفوس الذي تصيب الناس بالنفس وذكر رجلاً فقال كان حسوداً نفوساً كذوباً. وقال ابن قيس الرقيات:

يَتَّقي أهْلُها الْنُّفُوسَ عَلَيْهـــا فَعَلى نَحْرِهَا الرُّقى وَالتَّمِيمُ

وقال مضرس:

وَإذا نَمَوا صُعُداً فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنَّا الخِيالُ وَلا نُفُوسُ الْحُسَّدِ

والنفس الغَيْب يقال: إني لأعلم نفس فلان أي غيبة وعلى هذا تأويل الآية ويقال النفس أيضاً العقوبة وعليه حمل بعضهم قولـه تعالى: { ويحذركم الله نفسه } [آل عمران: 28، 30] والرقيب أصله من الترقب وهو الانتظار ومعناه الحافظ ورقيب القوم حارسهم والشهيد الشاهد لما يكون ويجوز أن يكون بمعنى العليم.
الإعراب: حقيقة إذ أن يكون لما مضى وهذا معطوف على ما قبله فكأنه. قال: يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم وذلك إذ يقول: يا عيسى. وقيل: إنه تعالى إنما قال له: ذلك حين رفعه إليه فيكون القول ماضياً عن البلخي وهذا قول السدي والصحيح الأول لأن الله عقَّب هذه الآية بقولـه { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وأراد به يوم القيامة وإنما خرج هذا مخرج الماضي وهو للمستقبل تحقيقاً لوقوعه كقولـه تعالى: { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } ومثله. قولـه:
{ { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } [سبأ: 51] يريد إذ يفزعون. وكذلك قولـه: { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [الأنعام: 27] وقال أبوالنجم:

ثُمَّ جَزاهُ اللهُ عَنّي إذْ جَــزى جَنَّاتِ عَدْنٍ في الْعَلالِيّ العُلا

من دون الله من زائدة مؤكدة للمعنى. قولـه: { إن كنت قلته } المعنى إن أكن الآن قلته فيما مضى وليس كان فيه على المعنى لأن الشرط والجزاء لا يقعان إلا فيما يستقبل وحرف الجزاء يغيّر معنى المضيّ إلى الاستقبال لا محالة هذا قول المحققين وقولـه { أن اعبدوا الله } ذكر في محله وجوه.
أحدها: النصب بدلاً مما أمرتني به.
والثاني: أن يكون مجروراً لموضع بدلاً من الهاء في به.
والثالث: أن يكون أن مفسرة لما أمر به بمعنى أي وعلى هذا فلا موضع لها من الإعراب.
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أمر المسيح. فقال { وإذ قال الله } والمعنى إذ يقول الله يوم القيامة لعيسى { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله } هذا وإن خرج مخرج الاستفهام فهو تقريع وتهديد لمن ادعى ذلك عليه من النصارى كما جرى في العرف بين الناس أنّ من ادعى على غيره قولاً فيقال لذلك الغير بين يدي المدعّى عليه ذلك القول { أأنت قلت } هذا القول ليقول: لا فيكون ذلك استعظاماً لذلك القول وتكذيباً لقائله وذكر فيه وجه آخر وهو أن يكون تعالى أراد بهذا القول تعريف عيسى أن قوماً قد اعتقدوا فيه وفي أمّه أنهما إلهان لأنه يمكن أن يكون عيسى لم يعرف ذلك إلاّ في تلك الحال عن البلخي والأول أصح.
وقد اعترض على قولـه: إلهين فقيل لا يُعلم في النصارى من اتخذ مريم إلهاً والجواب عنه من وجوه أحدها: أنهم لما جعلوا المسيح إلهاً لزمهم أن يجعلوا والدته أيضاً إلهاً لأن الولد يكون من جنس الوالدة فهذا على طريق الإلزام لهم والثاني: أنهم لما عظموهما تعظيم الآلهة أطلق اسم الآلهة عليهما كما أطلق اسم الرب على الرهبان والأحبار. في قولـه :
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [التوبة: 31] لم عظموهم تعظيم الرب والثالث: أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك ويعضد هذا القول ما حكاه الشيخ أبو جعفر عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم المريمية يعتقدون في مريم أنها إله فعلى هذا يكون القول فيه كالقول في الحكاية عن اليهود وقولـهم عزير ابن الله.
{ قال } يعني عيسى { سبحانك } جلَّ جلالك وعظمت وتعاليت عن عطاء. وقيل: معناه تنزيهاً لك وبراءة مما لا يجوز عليك. وقيل: تنزيهاً لك من أن تبعث رسولاً يدعي إلاهية لنفسه ويكفر بنعمتك فجمع بين التوحيد والعدل.
ثم تبرأ من قول النصارى فقال: { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } أي لا يجوز لي أن أقول لنفسي ما لا يحق لي فآمر الناس بعبادتي وأنا عبد مثلهم وإنما تحق العبادة لك لقدرتك على أصول النعم ثم استشهد الله تعالى على براءته من ذلك القول فقال: { إن كنت قلته فقد علمته } يريد أني لم أقله لأني لو كنت قلته لما خفي عليك لأنك علام الغيوب { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } أي تعلم غيبي وسرّي ولا أعلم غيبك وسرّك عن ابن عباس وإنما ذكر النفس لمزاوجة الكلام والعادة جارية بأن الإنسان يسرّ في نفسه فصار قولـه: { ما في نفسي } عبارة عن الإخفاء ثم قال: { ما في نفسك } على جهة المقابلة وإلا فالله منزه عن أن يكون له نفس أو قلب تحلّ فيه المعاني ويقوّي هذا التأويل قولـه تعالى: { إنك أنت علام الغيوب } لأنه علَّل علمه بما في نفس عيسى بأنه علام الغيوب وعيسى ليس كذلك فلذلك لم يعلم ما يختص الله بعلمه. ثم قال حكاية عن عيسى في جواب ما قرّره تعالى عليه { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } أي لم أقل للناس إلا ما أمرتني به من الإقرار لك بالعبودية وإنك ربي وربهم وإلهي وإلههم وأمرتَهم أن يعبدوك وحدك ولا يشركوا معك غيرك في العبادة { وكنت عليهم شهيداً } أي شاهداً { ما دمت } حياً { فيهم } بما شاهدته منهم وعلمته وبما أبلغتهم من رسالتك التي حملتَنيها وأمرتَني بأدائها إليهم.
{ فلما توفيتني } أي قبضتني إليك وأمتَّني عن الجبائي. وقيل: معناه وفاة الرفع إلى السماء عن الحسن { كنت أنت الرقيب } أي الحفيظ { عليهم } عن السدي وقتادة { وأنت على كل شيء شهيد } أي أنت عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليك خافية ولا يغيب عنك شيء. قال الجبائي: وفي هذه الآية دلالة على أنه أمات عيسى وتوفاه ثم رفعه إليه لأنه بَيَّن أنه كان شهيداً عليهم ما دام فيهم فلما توفاه الله كان هو الشهيد عليهم وهذا ضعيف لأن التوفي لا يستفاد من اطلاقه الموت ألا ترى إلى قولـه:
{ { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } [الزمر: 42] فبيّن أنه تعالى يتوفى الأنفس التي لم تمت.
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك } لا يقدرون على دفع شيء من أنفسهم { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } في تسليم الأمر لمالكه وتفويض إلى مدبره وتبرؤ من أن يكون إليه شيء من أمور قومه كما يقول الواحد منا إذا تبرأ من تدبير أمر من الأمور ويريد تفويضه إلى غيره هذا الأمر لا مدخل لي فيه فإن شئت وإن شئت فافعله فاتركه مع علمه وقطعه على أن أحد الأمرين لا يكون منه. وقيل: إن المعنى { إن تعذبهم } فبإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم عن الحسن فكأنه اشترط التوبة وإن لم يكن الشرط ظاهراً في الكلام وإنما لم يقل فإنك أنت الغفور الرحيم لأن الكلام لم يخرج مخرج السؤال ولو قال ذلك لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة. على أن قولـه: { العزيز الحكيم } أبلغ في المعنى وذلك أن المغفرة قد تكون حكمة وقد لا تكون والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة إذا كانا صوابين ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة لأن العزيز هو المنيع القادر الذي لا يضام والقاهر الذي لا يرام وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ولا يفعل إلاّ الحسن الجميل فالمغفرة والرحمة إن اقتضتهما الحكمة دخلتا فيه وزاد معنى هذا اللفظ عليهما من حيث اقتضى وصفه بالحكمة في سائر أفعاله.