التفاسير

< >
عرض

لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٨
إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٣٠
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: البسط المدّ وهو ضد القبض تبوء ترجع يقال باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزل وباؤوا بغضب من الله أي رجعوا والبوء الرجوع بالقود وهم في هذا الأمر بواء أي سواء طَوَّعتّ فَعَّلَتْ من الطوع والعرب تقول طاع لهذه الظبية أصول هذه الشجرة وطاع لفلان كذا أي أتاه طوعاً ولا يقال أطاعته نفسه لأن أطاع يدل على قصد موافقة معنى الأمر وليس كذلك طوَّع لأنه بمنزلة انطاع له أصول الشجرة وفي الفعل ما يتعدى إلى نفس الفاعل نحو حرك نفسه وقتل نفسه وفيه ما لا يتعدى إلى ذلك نحو أمر ونهى لأن الأمر والنهي لا يكونان إلا بمن هو أعلى إلى من هو دونه.
الإعراب: لئن بسطت اللام للقسم وجوابه ما أنا بباسط ولا يقع ما جواباً للشرط لأن ما يكون لها صدر الكلام بالقسم لا يخرجها عن ذلك كما جاز أن يكون جواب القسم بأن ولام الابتداء ولم يجز بالفاء لأن المقسم عليه ليس يجب بوجوب القسم وإنما القسم يؤكده وجواب الشرط يجب بوجوب الشرط فإذا اجتمع جواب القسم والجزاء كان جواب القسم أولى من الجزاء لأنه لما تقدم القسم وصار الجزاء في حشو الكلام غلبه على الجواب فصار له واكتفى به عن جواب الشرط لدلالته عليه.
المعنى: ثم أخبر سبحانه عن هابيل أنه قال لأخيه حين هدَّده بالقتل لما تقبل قربانه ولم يتقبل قربان أخيه { لئن بسطت إلي يدك } ومعناه لئن مددت إلي يدك { لتقتلني } أي لأن تقتلني { ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } أي لأن أقتلك قال أهل التفسير: إن القتل على سبيل المدافعة لم يكن مباحاً في ذلك الوقت وكان الصبر عليه هو المأمور به ليكون الله تعالى هو المتولي للانتصاف عن الحسن ومجاهد واختاره الجبائي. وقيل: إن معنى الآية { لئن بسطت إلي يدك } على سبيل الظلم والابتداء لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والابتداء عن ابن عباس وجماعة قالوا: إنه قتله غيلة بأن ألقى عليه وهو نائم صخرة شدخه بها قال المرتضى: والظاهر بغير الوجهين أشبه لأنَّه تعالى أخبر عنه أنه وإن بسط إليه أخوه يده ليقتله أي وهو مريد لقتله لأن اللام بمعنى كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض ولا شبهة في قبح ذلك لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلباً للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله فكأنه قال لئن ظلمتني لم أظلمك { إني أخاف الله رب العالمين } في مدّي إليك يدي لقتلك { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } معناه إني لا أبدؤك بالقتل لأني أريد أن ترجع بإثم قتلي إن قتلتني وإثمك الذي كان منك قبل قتلي عن ابن عباس والحسن وابن مسعود وقتادة ومجاهد والضحاك وقال الجبائي والزجاج: وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك. وقيل: معناه بإثم قتلي واثمك الذي هو قتل جميع الناس حيث سَنَنْتَ القتل ومعنى تبوء بإثمي تبوء بعقاب إثمي لأنه لا يجوز لأحد أن يريد معصية الله من غيره ولكن يجوز أن يريد عقابه المستحق عليه بالمعصية ومتى قيل كيف يحسن إرداة عقاب لم يقع سببه فإن القتل على هذا لم يكن واقعاً فجوابه أن ذلك بشرط وقوع ما يستحق به العقاب فهابيل لما رأى من أخيه العزم على قتله وغلب على ظنه ذلك جاز أن يريد عقابه بشرط أن يفعل ما عزم عليه { فتكون من أصحاب النار } أي فتصير بذلك من الملازمين النار { وذلك جزاء الظالمين } أي عقاب العاصين ويحتمل أن يكون هذا إخبار عن قول هابيل ويحتمل أن يكون ابتداء حكم من الله تعالى.
{ فطوَّعت له نفسه } فيه أقوال أحدها: أن معناه شجعته نفسه على { قتل أخيه } أي على أن يقتل أخاه عن مجاهد وثانيها: أن المراد زيَّنت له نفسه قتل أخيه وثالثها: أن المراد ساعدته نفسه وطاوعته نفسه على قتله أخاه فلما حذف حرف الجر نصب قتل أخيه. ومن قال: إن معناه زينت له فيكون قتل أخيه مفعولاً به { فقتله } قال مجاهد لم يدر قابيل كيف يقتله حتى ظهر له إبليس في صورة طير فأخذ طيراً آخر وترك رأسه بين حجرين فشدخه ففعل قابيل مثله. وقيل: هو أول قتيل كان في الناس { فأصبح من الخاسرين } أي صار ممن خسر الدنيا والآخرة وذهب عنه خيرهما واستدل بعضهم بقولـه فأصبح على أنه قتله ليلاً وهذا ليس بشيء لأن من عادة العرب أن يقولوا: أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمراً كانت ثمرته الخسران يعنون حصوله كذلك لا أنه تعلق بوقت دون وقت.