التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: المشهور في القراءة مكلبين بالتشديد وروي عن ابن مسعود والحسن مكلبين بالتخفيف.
الحجة: إكلاب الكلب هو إغراؤه بالصيد وإيساده يقال: كلب وأكلبته كما يقال أسد وأسدته ويحتمل أن يكون من أكلب الرجل إذا كثرت كلابه كما يقال أمشى إذا كثرت ماشيته والمكلب بالتشديد صاحب الكلاب يقال: رجل مُكَلَّب وكَلاّب إذا كان صاحب صيد بالكلاب. وقيل: هو الذي يُعلّم أخذ الصيد.
اللغة: الطيب: هو الحلال وقيل: هو المستلذ والجوارح الكواسب من الطير والسباع والواحدة جارحة وسميت جوارح لأنها تكسب أربابها الطعام بصيدها يقال جرح فلان أهله خيراً إذا كسبهم خيراً وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ولا جارحة لفلانة أي لا كاسبة لها قال أعشى بني ثعلبة:

ذاتِ خَدٍّ مُنْصَــحٍ مَبْسَمُها تَذْكُرُ الجارِحَ ما كانَ اجْتَرَحْ

أي: اكتسب.
الإعراب: { ماذا أحلّ لهم } يحتمل أن يكون ما وحدها اسماً وخبرها قولـه ذا واحل من صلة ذا وتقديره أيّ الذي أحل لهم ويحتمل أن تكون ماذا اسماً واحداً مرفوعاً بالابتداء وأحلّ خبره وتقديره أيّ شيء أحلّ لهم { ومكلبين } نصب على الحال أي وما علمتم من الجوارح في حال مصيركم أصحاب كلاب تعلمونهن في موضع نصب أيضاً بأنه حال من { مكلبين } وقولـه: { مما أمسكن عليكم } قيل: إن مِنْ هنا زائدة لأن جميع ما يمسكه مباح كقولـه:
{ { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } [النور: 43] وتقديره وينزل من السماء جبالاً فيها برد وذكر في هذه الآية غير ذا من الوجوه سنذكرها إذا انتهينا إلى موضعها من الكتاب إن شاء الله تعالى وقيل إن مِنْ للتبعيض لأنه لا يجوز أن يؤكل جميع ما يمسكه الكلب فإن في جملته ما هو حرام من الدّم والفرث والغدد وغير ذلك مما لا يجوز أكله فمعناه فكلوا ما أباح الله لكم أكله مما أمسكن عليكم.
النزول: عن أبي رافع قال: جاء جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه فأذن له وقال: قد أذنا لك يا رسول الله. قال: "أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب" قال أبو رافع: فأمرني رسول الله أن أقتل كل كلب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني فرجعت وقتلت الكلب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتل كلبها فسكت رسول الله فأنزل الآية فأذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيها وأمر بقتل العقور وما يضرّ ويؤذي. وعن أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: إن فينا رجلين لهما ستة أكلب تأخذ بقرة الوحش والظباء فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت وقد حرَّم الله الميتة فماذا يحلّ لنا من هذا فأنزل الله فكلوا مما أمسكن عليكم وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير.
المعنى: لمَّا قدَّم سبحانه ذكر المحرمات عَقَّبه بذكر ما أحل فقال { يسألونك } يا محمد { ماذا أحل لهم } معناه أيّ شيء أحل لهم أي يستخبرك المؤمنون ما الذي أحل لهم من المطاعم والمآكل وقيل: من الصيد والذبائح { قل } يا محمد { أحل لكم الطيبات } منها وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من المأكولات والذبائح والصيد عن أبي علي الجبائي وأبي مسلم. وقيل: مما لم يرد بتحريمه كتاب ولا سنة وهذا أولى لما ورد أن الأشياء كلها على الإطلاق والإباحة حتى يرد الشرع بالتحريم. وقال البلخي الطيبات ما يستلذ { وما علمتم من الجوارح } أي وأحل لكم أيضاً مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح أي الكواسب من سباع الطير والبهائم فحذف المضاف لدلالة قولـه: { مما أمسكن عليكم } عليه ولأنه جواب عن سؤال السائل عن الصيد. وقيل: الجوارح هي الكلاب فقط عن ابن عمر والضحاك والسدي وهو المروي عن أئمتنا (ع) فإنهم قالوا هي الكلاب المعلَّمة خاصة أحلَّه الله إذا أدركه صاحبه وقد قتله لقولـه: { فكلوا ممَّا أمسكن عليكم } وروى علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب فقال: لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب. فقلت: فإن قتله. قال: كُلْ فإن الله يقول: { وما علّمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن ممَّا علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } ثم قال (ع): كل شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلَّمة فإنها تمسك على صاحبها. وقال: إذا أرسلت الكلب المعلَّم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته وهو أن تقول: بسم الله والله أكبر ويؤيّد هذا المذهب ما يأتي بعد من قولـه { مكلّبين } أي أصحاب الصيد بالكلاب. وقيل: أصحاب التعليم للكلاب.
{ تعلمونهن مما علمكم الله } أي لأن تؤدّبونهن حتى يصرن معلَّمة مما ألهمكم الله بعقولكم حتى ميّزتم بين المعلم وغير المعلم وفي هذا دلالة أيضاً على أن صيد الكلب غير المعلم حرام إذا لم يدرك ذكاته. وقيل: معناه { تعلمونهن } كما علمكم الله عن السدي وهذا بعيد لأنَّ مِنْ بمعنى الكاف لا يعرف في اللغة ولا تقارب بينهما لأن الكاف للتشبيه ومن للتبعيض واختلف في صفة الكلب المعلم فقيل: هو أن يستشلى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه ويمسك عليه إذا أخذه ويستجيب له إذا دعاه ولا يفرّ منه فإذا توالى منه ذلك كان معلماً عن سعد بن أبي وقاص وسليمان وابن عمر.
وقيل: هو ما ذكرناه كله وإن لا يأكل منه عن ابن عباس وعدي بن حاتم وعطاء والشعبي وطاوس والسدي فروى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل منه فإنما أمسك على نفسه" وقيل: حدّ التعليم أن يفعل ذلك ثلاث مرات عن أبي يوسف ومحمد. وقيل: لا حدّ لتعليم الكلاب وإذا فعل ما قلناه فهو معلَّم ويدل على ذلك ما رواه أصحابنا أنه إذا أخذ كلب المجوسي فعلمه في الحال فاصطاد به جاز أكل ما يقتله وقد تقدم أن عند أهل البيت لا يحل أكل صيد غير الكلب إلا ما أدرك ذكاته ومن أجاز ذلك قال: إن تعلم البازي هو أن يرجع إلى صاحبه وتعلم كل جارحة من البهائم والطير هو أن يشلى على الصيد فيستشلى ويأخذ الصيد ويدعوه صاحبه فيجيب فإذا كان كذلك كان معملاً أكل منه أو لم يأكل روي ذلك عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وقال آخرون ما أكل منه فلا يؤكل رووه عن علي (ع) والشعبي وعكرمة.
وقولـه: { فكلوا مما أمسكن عليكم } أي مما أمسك الجوارح عليكم وهذا يقوي قول من قال: ما أكل منه الكلب لا يجوز أكله لأنه أمسك على نفسه ومن شرط في استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه قد سمى عند إرساله فإذا لم يسمّ لم يجز له أكله إلا إذا أدرك ذكاته وأدنى ما يدرك به ذكاته أن يجده تتحرك عينه أو أذنه أو ذنبه فتذكيته حينئذٍ بفري بالحلقوم والأوداج { واذكروا اسم الله عليه } أي قبل الإرسال عن ابن عباس والحسن والسدي. وقيل: معناه اذكروا اسم الله على ذبح ما تذبحونه وهذا صريح في وجوب التسمية والقول الأول أصح { واتقوا الله } أي اجتنبوا ما نهاكم الله عنه فلا تقربوه واحذروا معاصيه التي منها أكل صيد الكلب غير المعلم أو ما لم يمسكه عليكم أو ما لم يذكر اسم الله عليه من الصيد والذبائح { إن الله سريع الحساب } قد مرَّ تفسيره.