التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٦٧
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم رسالاته على الجمع والباقون رسالته على التوحيد.
الحجة: قال أبو علي: حجة مَن جمع أن الرسل يرسلون بضروب من الرسائل كالتوحيد والشرائع فلما اختلفت الرسائل حسن أن تجمع كما حسن أن تجمع أسماء الأجناس إذا اختلفت. ألا ترى أنك تقول: رأيت تموراً كثيرة نظرت في علوم كثيرة فتجمع هذه الأسماء إذا أردت ضروبها كما تجمع غيرها من الأسماء وحجة مَن أفرد هذه الأسماء أنها تدل على الكثرة وإن لم تجمع كما تدل الألفاظ المصوغة للجمع فمما يدل على ذلك قولـه: لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً فوقع الاسم الشائع على الجميع كما يقع على الواحد فكذلك الرسالة.
الإعراب: أرْسَل فعل يتعدى إلى مفعولين ويتعدى إلى الثاني منهما بالجار كقولـه
{ { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه } [نوح: 1] و { { أرسلناه إلى مائة ألف } [الصافات: 147] ويجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر كقولـه { ثم أرسلنا رسلاً تترا } [المؤمنون: 44] و { { إنا أرسلناك شاهداً } [الفتح: 8] وقال: فأرسل إلى هارون فعدّى إلى الثاني والأول مقدّر في المعنى وقال:

فَأرْسَلَها الْعِراكَ وَلَمْ يَذُدْهـــا وَلَم يُشْفِقْ عَلى نَغْصِ الدِّخالِ

المعنى خَلّى بين هذه الإبل وبين شربها ولم يمنعها من ذلك وأنشد أبو زيد:

لَعَمْري لَقَدْ جاءَتْ رِسالَةُ مالِكٍ إلى جَسَدٍ بَيْنَ الْعَوائِد مُخْتَبَلُ

والرسالة هنا بمعنى الإرسال والمصدر في تقدير الإضافة إلى الفاعل والمفعول الأول في التقدير محذوف كما كان في قولـه: { { فأرسل إلى هارون } [الشعراء: 13] محذوفاً والتقدير رسالة المالك زيداً إلى جسد والجار والمجرور في موضع نصب بكونه مفعولاً ثانياً والمعنى إلى ذي جسد لأن الرسالة لم تأت الجسد دون سائر المرسل إليه وهذا مثل قولـه:

وبعد عطائك المائة الرتاعا

في وضعه العطاء موضع الإعطاء والرسول يكون بمعنى الرسالة ويكون بمعنى المرسَل فأما كونه بمعنى الرسالة فكقول الشاعر:

لَقَدْ كَذِبَ الْواشُونَ ما بُحْتُ عَنْهُم بِسِــرٍّ وَلا أرْسَلْتُـــهُم بِرَسُولِ

أي برسالة وكونه بمعنى المرسَل قولـه { { وما محمد إلا رسول } [آل عمران: 144] ومثله في أنه فعول بمعنى مفعول قولـه:

وَما زِلْت خَيْراً مِنْكَ مُذْ عَضَّ كارِهاً بِلَحْيَـــيْكَ غادِيُّ الطَّرِيقِ رَكُوبُ

يريد أنه طريق مركوب مسلوك والعصمة المنع من عصام القربة وهو وكاؤها الذي تشد به من سير أو خيط قال الشاعر:

وَقُـلْتُ عَلَيْكُم مالِكـــاً إنَّ مالِكـــاً سَيَعْصِمُكُمْ إنْ كانَ في النَّاسِ عاصِمُ

أي سيمنعكم واعتصم فلان بفلان أي امتنع به.
المعنى: ثم أمر سبحانه نبيَّه بالتبليغ ووعده العصمة والنصرة فقال { يا أيها الرسول } وهذا نداء تشريف وتعظيم { بلغ } أي واصل إليهم { ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } أكْثَرَ المفسرون فيه الأقاويل. فقيل: إن الله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وسلم برسالة ضاق بها ذرعاً وكان يهاب قريشاً فأزال الله بهذه الآية تلك الهيبة عن الحسن. وقيل: يريد به ازالة التوهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي للتقية عن عائشة. وقيل: غير ذلك وروى العياشي في تفسيره بإسناده عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينصب علياً (ع) للناس فيخبرهم بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى الله إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم وهذا الخبر بعينه قد حدثناه السيد أبو الحمد عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل والتأويل وفيه أيضاً بالإسناد المرفوع إلى حيان بن علي الغنوي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في علي (ع) فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده (ع) فقال:
"من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال والاه وعاد من عاداه" وقد أورد هذا الخبر بعينه أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره بإسناده مرفوعاً إلى ابن عباس قال نزلت هذه الآية في علي (ع) أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد علي (ع) فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن الله أوحى إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يستخلف علياً (ع) فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره الله بأدائه، والمعنى إن تركت تبليغ ما أنزل إليك وكتمتَه كنت كأنك لم تبلغ شيئاً من رسالات ربك في استحقاق العقوبة. وقال ابن عباس: معناه إن كتمت آية مما أنزل إليك { فما بلغت رسالته } أي لم تكن ممتثلاً بجميع الأمر.
{ والله يعصمُك من الناس } أي يمنعك من أن ينالوك بسوء { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } قيل فيه قولان أحدهما: أن معنى الهداية هنا أنه سبحانه لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان لأن من هداه إلى غرضه فقد أعانه على بلوغه عن علي بن عيسى قال ولا يجوز أن يكون المراد لا يهديهم إلى الإيمان لأنه تعالى هداهم إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورَغَّبهم فيه وحَذَّرهم من خلافه والآخر: أن المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب عن الجبائي وفي هذه الآية دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته من وجهين أحدهما: أنه وقع مخبره على ما أخبر به فيه وفي نظائره فدلّ ذلك على أنه من عند عالم الغيوب والسرائر والثاني: أنه لا يقدم على الإخبار بذلك إلا وهو يأمن أن يكون مخبره على ما أخبر به لأنه لا داعي له إلى ذلك إلا الصدق وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال للحراس من أصحابه كانوا يحرسونه منهم سعد وحذيفة:
"ألحقوا بملاحقكم فإن الله تعالى عصمني من الناس" .