التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
٧٢
لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٣
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٤
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الشرك أصله الاجتماع في الملك فإذا كان الملك بين نفسين فهما شريكان وكذلك كل شيء بين نفسين ولا يلزم على ذلك ما يضاف إلى كل واحد منهما منفرداً كالعبد يكون ملكاً لله وهو ملك للإنسان لأنه لو بطل ملك الإنسان لكان ملكاً لله كما كان لم يزد في ملكه شيء لم يكن والمس ههنا معناه ما يكون معه إحساس وهو حلوله فيه لأن العذاب لا يمس الحيوان إلا أحس به وقد يكون المس بمعنى اللمس.
الإعراب: قال الفراء: { ثالث ثلاثة } لا يكون إلا مضافاً ولا يجوز التنوين في ثالث فينصب ثلاثة وكذلك قولـه:
{ { ثاني اثنين إذ هما في الغار } [التوبة: 40] لا يكون إلا مضافاً لأن المعنى مذهب اسم كأنك قلت واحد من اثنين وواحد من ثلاثة ولو قلت: أنت ثالث اثنين جاز الاضافة وجاز التنوين ونصب الاثنين وكذلك رابع ثلاثة لأنه فعل واقع وزاد الزجاج لهذا بياناً فقال: لا يجوز في ثلاثة إلا الخفض لأن المعنى أحد ثلاثة فإن قلت: ثالث اثنين أو رابع ثلاثة جاز الخفض والنصب أما النصب فعلى قولك كان القوم ثلاثة فربعتهم وأنا رابعهم عدداً ومن خفض فعلى حذف التنوين كما قال عز وجل { { هدياً بالغ الكعبة } [المائدة: 95] وتقديره بالغاً للكعبة وقولـه { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنَّ } فيه دلالة على اعتماد القسم في مثل قولـه { { ولئن جئتَهُم بآية ليقولن } [الروم: 58] على الفعل الثاني دون الأول ألا ترى أنه لو كان اعتماد القسم على الأول لما حذف اللام من قولـه وإن لم ينتهوا كما لم يحذف اللام الثانية في موضع ومثله في الشعر قول عارق الطائي:

فَأقْسَمْتُ لا أحْتَـــلُّ إلاَّ بِصَهْـوَةٍ حَرامٍ عَليَّ رَمْلُهُ وَشَقائِقُـهُ
فَإنْ لَمْ تُغَيِّرْ بَعْضَ ما قَدْ صَنَعْتُم لأنتحِيَنْ لِلْعَظْمِ ذُو أنَا عارِقُه

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون اعتماد القسم على اللام الأولى إلا أنها حذفت كما حذفت من قولـه { { قد أفلح من زكاها } [الشمس: 9] فجوابه أن ذلك لا يجوز لأن اللام إنما حذفت من قد أفلح لطول الكلام لما اعترض بين القسم والمقسم عليه ولم يطل في هذا الموضع فيستجاز حذفها وإنما هذه اللام بمنزلة أن في قولك والله إن لو فعلت لفعلت تثبتها تارة وتحذفها أُخرى والقسم لا يعتمد على هذه اللام كما لا يعتمد على أن هذه أنشد سيبويه:

فَأُقْسِمُ أنْ لَوٍّ الْتَقَيْنَا وَأنْتُـــم لَكانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمُ

فالذي اعتمد عليه أقسم قولـه لكان دون أن ألا ترى أنك تقول أقسمتُ لو جئتَ لجئتُ فتحذف أن كما تحذف هذه اللام فهذه اللام من الزيادات التي إذا أدخلت أكدت وإذا سقطت لم يُخِل سقوطها بالكلام إلا أن زيادتها في القسم دون غيره كما أنّ إنْ تزاد في قولـهم ما أن في النفي دون غيره وعلى هذا فيكون المعقود بالقسم في قولك لئن أتيتني لأكرمتك إنما هو لاكرمتك ولكن الشرط يكون كالاستثناء من هذه الجملة المعقودة بالقسم كأنك أردت أن تقسم على البتات أن تكرمه ثم بدا لك إذا أردت ذلك ثم علقت إكرامك إياه بإتيانه فصار التقدير والله لاكرمتك إن آتيتني أي إن آتيتني لاكرمتك فاستغنيت عن ذكر الجزاء لتقدير تقديم ما يدل عليه فقولك لأن آتيتني متصل بما يدل عليه لا كرمتك من الجزاء هذا الاتصال وهذه الجملة قد لخصتها من كلام الشيخ أبي علي.
المعنى: ثم عاد تعالى إلى ذكر النصارى فقال { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وهذا مذهب اليعقوبية منهم لأنهم قالوا إن الله اتَّحد بالمسيح اتحاد الذات فصارا شيئاً واحداً وصار الناسوت لاهوتاً وذلك قولـهم إنه الإله { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } أي خالقي وخالقكم ومالكي ومالككم وإني وإياكم عبيده { إنه من يشرك بالله } أي بأن يزعم أن غيره يستحق العبادة مع ما ثبت أنه لا يقدر أحد على فعل ما يستحق به العبادة سوى الله تعالى { فقد حرّم الله عليه الجنة } والتحريم ها هنا تحريم منع لا تحريم عبادة ومعناه فإن الله يمنعه الجنة { ومأواه } أي مصيره { النار } وهذا كله إخبار من المسيح لقومه { وما للظالمين من أنصار } معناه لا ناصر لهم يخلصهم مما هم فيه من أنواع العذاب.
ثم أقسم تعالى قَسَماً آخر فقال { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } والقائلون بهذه المقالة جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية والنسطورية لأنهم يقولون ثلاثة أقانيم جوهر واحد آب وابن وروح القدس إله واحد ولا يقولون ثلاثة آلهة ويمنعون من هذه العبارة وإن كان يلزمهم أن يقولوا ثلاثة آلهة فصحَّ أن يحكى عنهم بالعبارة اللازمة وإنما قلنا إنه يلزمهم ذلك لأنهم يقولون الابن إله والأب إله وروح القدس إله والابن ليس هو الأب { وما من إله إلا إله واحد } أي ليس إله إلا إلهاً واحداً وإنما دخلت من للتوكيد { وإن لم ينتهوا عما يقولون } أي وإن لم يرجعوا ويتوبوا عما يقولون من القول بالتثليث أقسم.
{ ليمسنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم } وإنما خصَّ سبحانه الذين يستمرون على كفرهم لأنه علم أن بعضهم يؤمن عن أبي علي الجبائي والزجاج. وقيل: إنه عمَّ بقولـه: { الذي كفروا } الفريقين الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم والذين قالوا: إن الله هو ثالث ثلاثة والضمير عائد إلى أهل الكتاب وليس في هذا دلالة على أن في أفعال الجوارح ما هو كفر لأنه إنما يتضمن أن من قال: إنه ثالث ثلاثة فهو كافر ولا خلاف في ذلك فإن من قال إن الكفر هو الجحود بالقلب قال: إن في أفعال الجوارح ما يدل على الكفر الذي هو الجحود مثل هذه المقالة ومثل السجود للصنم وغير ذلك فلا دلالة في الآية على ما قالوه.
{ أفلا يتوبون إلى الله } قال الفراء: هذا أمر في لفظ الاستفهام وقد يرد الأمر بلفظ الاستفهام كقولـه:
{ { فهل أنتم منتهون } [المائدة: 91] وإنما دخلت إلى لأن معنى التوبة الرجوع إلى طاعة الله لأن التائب بمنزلة من ذهب عنها ثم عاد إليها { ويستغفرونه } الفرق بين التوبة والاستغفار أن الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء والتوبة أو غيرهما من الطاعة، والتوبة الندم على المعصية مع العزم على أن لا يعود إلى مثلها في القبح والاستغفار مع الإصرار على القبيح لا يصح { والله غفور رحيم } يغفر الذنوب ويسترها رحمة منه لعباده وفي هذه الآية تحريض على التوبة وحثّ على الاستغفار.