التفاسير

< >
عرض

مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٧٥
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٧٦
قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ
٧٧
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الصديقة المبالغة في الصدق والصِدّيق فِعّيل من أبنية المبالغة كما يقال: رجل سِكّيت أي مبالغ في السكوت. يقال أفكه يأفكه أفكاً إذا صرفه والافك الكذب لأنه صرف عن الحق وكل مصروف عن شيء مأفوك عنه قال ابن السِكّيت:

إنْ تَكُ عَنْ أحْسَنِ الْمُروءَةِ مَأْ فُوكاً فَفِــي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا

وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر وأرض مأفوكة لم يصبها مطر والمؤتفكات المتقلبات من الرياح لأنها صرفت عن وجهها والملك القدرة على تصريف ما للقادر عليه أن يصرفه فملك الضرر والنفع أخصُّ من القدرة عليهما لأن القادر قد يقدر من ذلك على ما له أن يفعل وقد يقدر منه على ما ليس له أن يفعله والنفع هو فعل اللذة والسرور أو ما أدّى إليهما أو إلى أحدهما مثل الملاذّ التي تحصل في الحيوان والصلة بالمال والوعد باللذة فإن جميع ذلك نفع لأنه يؤدّي إلى اللذة، والضرر هو فعل الألم والغم أو ما يؤدي إليهما أو إلى واحد منهما كالآلام التي توجد في الحيوان وكالقذف والسبّ لأن جميع ذلك يؤدّي إلى الألم، والأهواء أجمع هوى النفس مقصور لأنه مثل فَعَل وفُعْل جمعه أفعال.
الإعراب: انتصاب غير الحق على وجهين: أحدهما: أن يكون على الحال من دينكم فكأنه قال: لا تغلوا في دينكم مخالفين للحق والثاني: أن يكون منصوباً على الاستثناء بمعنى لا تغلوا في دينكم إلا الحق فيكون الحق مستثنى من النهي عن الغلو فيه بأن يجوز الغلو فيما هو حق على معنى اتباعه.
المعنى: لَمّا قَدَّم سبحانه ذكر مقالات النصارى عقَّبه بالردّ عليهم والحجاج لهم فقال { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } أي ليس هو بإله { قد خلت من قبله الرسل } أي كما أن الرسل الذين مضوا قبله ليسوا بآلهة وأن أتوا بالمعجزات الباهرات فكذلك المسيح فمن ادعى له الإلهية فهو كمن ادعى لهم الإلهية لتساويهم في المنزلة { وأمه صديقة } لأنها تصدق بآيات ربها ومنزلة ولدها وتصدقه فيما أخبرها به بدلالة قولـه:
{ { وصدقت بكلمات ربها } [التحريم: 12] عن الحسن والجبائي. وقيل: سميت صديقة لكثرة صدقها وعظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها { كانا يأكلان الطعام } قيل فيه قولان أحدهما: أنه احتجاج على النصارى بأن من ولده النساء ويأكل الطعام لا يكون إلهاً للعباد لأن سبيله سبيلهم في الحاجة إلى الصانع المدبر والمعنى أنهما كانا يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الخلق فكيف يكون إلهاً من لا يقيمه إلا أكل الطعام وهذا معنى قول ابن عباس والثاني: أن ذلك كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام لا بدّ له من الحدث فلما ذكر الأكل صار كأنه أخبر عن عاقبته.
{ انظر كيف نبين لهم الآيات } أمر سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بأن يفكروا فيما بَيّن تعالى من الآيات أي الدلالات على بطلان ما اعتقدوه من ربوبية المسيح ثم أمر بأن ينظر { ثم انظر أنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق الذي يؤدي إليه تدبّر الآيات فالنظر الأول إنما هو إلى فعله تعالى الجميل في نصب الآيات وإزاحة العلل والنظر الثاني إلى أفعالهم القبيحة وتركهم التدبّر للآيات.
ثم زاد تعالى في الاحتجاج عليهم فقال { قل } يا محمد { أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } أي أتوجهون عبادتكم إلى من لا يقدر لكم على النفع والضر لأن القادر عليهما هو الله أو من يُمكّنه الله تعالى من ذلك والمستحق للعبادة إنما هو القادر على أصول النعم والنفع والضر والخلق والإحياء والرزق ولا يقدر على ذلك غير الله فلا يستحق العبادة سواه.
{ والله هو السميع } لأقوالكم { العليم } بضمائركم وفي هذا تحذير من الجزاء واستدعاء إلى التوبة ثم دعاهم إلى ترك الغلو فقال { قل } يا محمد للنصارى فإنهم المخاطبون هنا. وقال قوم: إنه خطاب لليهود والنصارى لأن اليهود غلوا أيضاً في تكذيب عيسى ومحمد { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } أي لا تتجاوزوا الحد الذي حدَّه الله لكم إلى الازدياد وضده التقصير وهو الخروج عن الحد إلى النقصان والزيادة في الحد والنقصان عنه كلاهما فساد ودين الله الذي أمر به هو بين الغلو والتقصير وهو الاقتصار { غير الحق } أي مجاوزين الحق إلى الغلو وإلى التقصير فيفوتكم الحق. ومن قال: إن الخطاب لليهود والنصارى فغلو النصارى في عيسى ادعاؤهم له الإلهية وغلو اليهود فيه تكذيبهم له ونسبتهم إياه إلى أنه لغير رِشْدةٍ.
{ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } قال ابن عباس كل هوّى ضلالة يعني بالقوم الذين ضلوا من قبل رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى والآية خطاب للذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نُهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم وأن يقلدوهم فيما هووا والأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة لأن الإنسان قد يستثقل النظر لما فيه من المشقة ويميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده وهو ضلال فيهلك به والاتباع هو سلوك الثاني طريقة الأول على وجه الاقتداء به وقد يتبع الثاني الأول في الحق وقد يتبعه في الباطل وإنما يعلم أحدهما بدليل { وأضلوا كثيراً } يعني به هؤلاء الذين ضلوا عن الحق أضلوا كثيراً من الخلق أيضاً ونسب الإضلال إليهم من حيث كان بدعائهم وإغوائهم { وضلوا عن سواء السبيل } قيل في معناه قولان أحدهما: أنهم ضلوا بإضلالهم غيرهم عن الزجاج والثاني: أنهم ضلوا من قبل بكفرهم بعيسى وأضلوا غيرهم من بعد بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فلذلك كرَّر ومعنى سواء السبيل مستقيم الطريق وقيل له سواء لاستمراره على استواء. وقيل: لأنه يستقيم بصاحبه إلى الجنة والخلود في النعيم.