التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٣
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

النزول: لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فأنزل الله هذه الآية عن ابن عباس وأنس بن مالك والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة والضحاك. وقيل: إنها نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهيب كعثمان بن مظعون وغيره فبيَّن الله لهم أنه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات.
المعنى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } أي إثم وحرج: { فيما طعموا } من الخمر والميسر قبل نزول التحريم وفي تفسير أهل البيت (ع) فيما طعموا من الحلال وهذه اللفظة صالحة للأكل والشرب جميعاً: { إذا ما اتقوا } شربها بعد التحريم: { وآمنوا } بالله: { وعملوا الصالحات } أي الطاعات: { ثم اتقوا } أي داموا على الاتقاء: { وآمنوا } أي داموا على الإيمان: { ثم اتقوا } بفعل الفرائض: { وأحسنوا } بفعل النوافل وعلى هذا يكون الاتقاء الأول اتقاء الشرب بعد التحريم والاتقاء الثاني هو الدوام على ذلك والاتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي وضم الإحسان إليه. وقيل: إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تختص المكلف ولا تتعداه والإيمان الأول هو الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الله تعالى الإيمان به والإيمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والإيمان بقبحها ووجوب اجتنابها والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وبما يتعدى إلى الغير من الظلم والفساد.
وقال أبو علي الجبائي: إن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي والشرط الثاني يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله والشرط الثالث يختص بمظالم العباد ثم استدل على أن هذا الاتقاء يختص بمظالم العباد بقولـه أحسنوا فإن الإحسان إذا كان متعدياً وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضاً متعدية وهذا ضعيف لأنه لا تصريح في الآية بأن المراد به الإحسان المتعدي ولا يمتنع أن يريد بالإحسان فعل الحسن والمبالغة فيه وإن اختص الفاعل ولا يتعداه كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت ثم لو سلم أن المراد به الإحسان المتعدي فَلِمَ لا يجوز أن يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى ولو صرح تعالى فقال: واتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى غيرهم لم يمتنع ولعلَّ أبا علي إنما عدل في الشرط الثالث عن ذكر الأحوال لما ظن أنه لا يمكن فيه ما أمكن في الأول والثاني وهذا ممكن غير ممتنع بأن يحمل الشرط الأول على الماضي والثاني على الحال والثالث على المنتظر المستقبل. ومتى قيل: إن المتكلمين عندهم لا واسطة بين الماضي والمستقبل فإن الفعل إما أن يكون موجوداً فيكون ماضياً وإما أن يكون معدوماً فيكون مستقبلاً وإنما ذكر الأحوال الثلاثة النحويون فجوابه أن الصحيح أنه لا واسطة في الوجود بين المعدوم والموجود كما ذكرت غير أن الموجود في أقرب الزمان لا يمتنع أن نسميه حالاً ونفرق بينه وبين الغابر السالف والغابر المنتظر.
ووجدت السيد الأجل المرتضى علي بن الحسين الموسوي ذكر في بعض مسائله أن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية وظنوا أنه المشكل فيها وتركوا ما هو أشد إشكالاً من التكرار وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الإتقاء والإيمان وعمل الصالحات ليس بشرط في نفي الجناح فإن المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه ولا وزر. قال: ولنا في حلِّ هذه الشبهة طريقان أحدهما: أن يضم إلى المشروط المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثيره ما شرط فيكون تقدير الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات لأن الشرط في نفي الجناح لا بدَّ من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفى ثبت الجناح وقد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه ولمّا ولي ذكر الاتقاء الإيمان وعمل الصالحات ولا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط ويطابق المشروط لأن من اتقى المحارم فيما لا يطعم لا جناح عليه فيما يطعمه ولكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب أو ضيَّعه من فرض فإذا شرطنا أنه وقع اتقاء القبيح ممن آمن بالله وعمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كل وجه وليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى وتكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به ومثله قول الشاعر:

تَـراه كأَنَّ اللهِ يَجْـــدَعُ انْفَهُ وَعَيْنَيْهِ إنْ مَوْلاهُ ثَابَ لَهُ وَفْرُ

لما كان الجدع لا يليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجري مجراه.
والطريق الثاني هو أن يجعل الإيمان وعمل الصالحات هنا ليس بشرط حقيقي وإن كان معطوفاً على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان وعمل الصالحات عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا في كونهما شرطاً في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحساناً واستغراباً انتهى كلامه.
وقد قيل أيضاً في الجواب عن ذلك: إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور فلا يطلق عليه هذا اللفظ وأيضاً فإن الكافر قد سَدَّ على نفسه طريق معرفة التحريم والتحليل فلذلك خصَّ المؤمن بالذكر وقولـه: { والله يحب المحسنين } أي يريد ثوابهم أو إجلالهم وإكرامهم وتبجيلهم ويروى أن قدامة بن مظعون شرب الخمر في أيام عمر بن الخطاب فأراد أن يقيم عليه الحد فقال: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فأراد عمر أن يدرأ عنه الحد. فقال عَليُّ: أديروه على الصحابة فإن لم يسمع أحداً منهم قرأ عليه آية التحريم فادرؤوا عنه الحد وإن كان قد سمع فاستتيبوه وأقيموا عليه الحد فإن لم يتب وجب عليه القتل.