التفاسير

< >
عرض

وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
٣١
هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
٣٢
مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣
ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ
٣٤
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
٣٥
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
٣٧
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ
٣٩
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ
٤٠

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الحجاز وحمزة وخلف وإدبار بكسر الهمزة والباقون وأدبار السجود بالفتح وفي الشواذ قراءة ابن عباس وأبي العالية ويحيى بن يعمر فنقّبوا في البلاد بكسر القاف وقراءة السدي وألقي السمع وقراءة أبي عبد الرحمن السلمي وطلحة وما مسنا من لغوب بفتح اللام.
الحجة: قال أبو علي إدبار مصدر والمصادر تجعل ظروفاً على إرادة إضافة أسماء الزمان إليها وحذفها كقولك جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم وخلافة فلان تريد في ذلك كله وقت كذا فكذلك يقدر هنا وقت إدبار السجود إلا أن المضاف المحذوف في هذا الباب لا يكاد يظهر ولا يستعمل فهذا أدخل في باب الظروف من قول من فتح فكأنه أمر بالتسبيح بعد الفراغ من الصلاة ومن فتح جعله جمع دبر أو دبر مثل قفل وإقفال وطُنْب وأطناب وقد استعمل ذلك ظرفاً نحو جئتك في دبر الصلاة وفي إدبار الصلاة قال أوس بن حجر:

علَى دُبُرِ الشَّهْرِ الحَرامِ بِأَرْضِنا وَمــا حَوْلَها جَــدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ

وأما من قرأ فنقبوا فقد قال ابن جني إنه فعلوا من النقب أي أدخلوا وغوروا في الأرض فإنكم لا تجدون لكم محيصاً وقوله أو ألقى السمع معناه أو ألقى السمع منه وقوله { وما مسنا من لغوب } فيمكن أن يكون من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الفاء كالوضوء والولوغ والوزوع والقبول وهي صفات مصادر محذوفة أي توضأت وضوءاً أي وضوءاً حسناً وكذلك هذا أي وما مسنا من لغوب لغوب أي تعب متعب.
اللغة: الإزلاف التقريب إلى الخير ومنه الزلفة والزلفى وازدلف إليه أي اقترب والمزدلفة منزلة قريبة من الموقف وهو المشعر وجَمْع ومنه قول الراجز:

نــاجِ طَواهُ الأَيْنُ مِمَّا أَوْجَفا طَـــيَّ اللَّيالــــي زُلَفـاً فَزُلفا
سَماوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقفا

والتنقيب التفتيح بما يصلح للسلوك وهو من النقب الذي هو الفتح قال امرؤ القيس:

لَقَدْ نَقَّبْــــتُ فِي الآفاقِ حَتَّى رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بِالإِيابِ

أي طوّفّت في طرقها وسرت في نقوبها واللغوب الإعياء.
الإعراب: غير بعيد صفة مصدر محذوف تقديره إزلافاً غير بعيد ويجوز أن يكون منصوباً على الحال من الجنة ولم يقل غير بعيدة لأنه في تقدير النسب أي غير ذات بعد وقوله لك أوّاب يجوز أن يكون في موضع رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الكل أواب ولا يجوز أن يكون خبراً بعد خبر تقديره هذا الموعود هذا لكل أواب حفيظ ولا يجوز أن تتعلق اللام بتوعدون لأن الأوابين هم الموعودون لا الموعود لهم. من خشي الرحمن يجوز أن يكون في محل جر على البدل من أواب فيتم الكلام عند قوله { وجاء بقلب منيب } ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف على تقدير يقال لهم ادخلوها فعلى هذا يكون تمام الكلام عند قوله { لكل أواب حفيظ } ويقتضي أن يكون ادخلوها خطاباً للمتقين وتقديره وتزلف الجنة للمتقين ويقال لهم أدخلوها بسلام.
المعنى: لما أخبر سبحانه عما أعده للكافرين والعصاة عقبه بذكر ما أعده للمتقين فقال { وأزلفت الجنة للمتقين } أي قربت الجنة وأدنيت للذين اتقوا الشرك والمعاصي حتى يروا ما فيها من النعيم والجنة هي البستان الّذي يجمع كل لذة من الأنهار والأشجار وطيب الثمار ومن الأزواج الكرام والحور الحسان والخدم من الولدان ومن الأبنية الفاخرة المزينة بالياقوت والزمرد والعقيان نسأل الله التوفيق لما يقرب من رضاه { غير بعيد } أي هي قريبة منهم لا يلحقهم ضرر ولا مشقة في الوصول إليها. وقيل: معناه ليس ببعيد مجيء ذلك لأن كل آت قريب ومثله قول الحسن كأنك بالدنيا كأن لم تكن وبالآخرة كأن لم تزل.
{ هذا ما توعدون } أي هذا الذي ذكرناه هو ما وعدتم به من الثواب على ألسنة الرسل { لكل أواب } أي تواب رجّاع إلى الطاعة عن الضحاك وابن زيد. وقيل: لكل مسبح عن ابن عباس وعطاء { حفيظ } لما أمر الله به متحفظ من الخروج إلى ما لا يجوز من سيئة تدنسه أو خطيئة تحط منه وتشينه.
{ من خشي الرحمن بالغيب } أي هو من خاف الله وأطاعه وآمن بثوابه وعقابه ولم يره. وقيل: بالغيب أي في الخلوة بحيث لا يراه أحد عن الضحاك والسدي { وجآء بقلب منيب } أي ودام على ذلك حتى وافى الآخرة بقلب مقبل على طاعة الله راجع إلى الله بضمائره.
{ ادخلوها بسلام } أي يقال لهم ادخلوا الجنة بأمان من كل مكروه وسلامة من كل آفة. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم { ذلك يوم الخلود } الوقت الذي يبقون فيه في النعيم مؤبدين لا إلى غاية { لهم ما يشاؤون فيها } أي لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم ويريدونه من أنواع النعم { ولدينا مزيد } أي وعندنا زيادة على ما يشاؤونه مما لم يخطر ببالهم ولم تبلغهم أمانيهم. وقيل: هو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم.
ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } أي كثيراً أهلكنا قبل هؤلاء من القرون الذين كذبوا رسلهم { هم أشد منهم بطشاً } أي الذين أهلكناهم كانوا أشد قوة من هؤلاء وأكثر عدة وعدّة ولم يتعذر علينا ذلك فما الذي يؤمّن هؤلاء من مثله { فنقبوا في البلاد } أي فتحوا المسالك في البلاد بشدة بطشهم أصله من النقب وهو الطريق قيل معناه ساروا في البلاد وطوّفوا فيها بقوتهم وسلكوا كل طريق وسافروا في أعمار طويلة { هل من محيص } أي هل من محيد عن الموت ومنجىً من الهلاك يعني لم يجدوا في جميع ذلك من الموت والهلاك منجىً ومهرباً.
{ إن في ذلك } أي فيما أخبرته وقصصته { لذكرى } أي ما يعتبر به ويتفكر فيه { لمن كان له قلب } معنى القلب هنا العقل عن ابن عباس من قولهم أين ذهب قلبك وفلان قلبه معه وإنما قال ذلك لأن من لا يعي الذكر لا يعتد بما له من القلب. وقيل: لمن كان له قلب حيّ عن قتادة { أو ألقى السمع وهو شهيد } أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع وهو شهيد لما يسمع فيفقهه غير غافل عنه ولا ساهٍ عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يقال ألق إليّ سمعك أي اسمع قال ابن عباس كان المنافقون يجلسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون فيقولون ماذا قال آنفاً ليس قلوبهم معهم. وقيل: هو شهيد على صفة النبي في الكتب السالفة يريد أهل الكتاب عن قتادة.
{ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } أي نصب وتعب أكذب الله تعالى بهذا اليهود فإنهم قالوا استراح الله يوم السبت فلذلك لا تعمل فيه شيئاً.
{ فاصبر على ما يقولون } يا محمد من بهتهم وكذبهم وقولهم إنك ساحر أو مجنون واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج وهذا قبل أن أمر الله بالقتال { وسبح بحمد ربك } أي وصلّ واحمد الله تعالى سمى الصلاة تسبيحاً لأن الصلاة تشتمل على التسبيح والتحميد عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وقيل: أراد به التسبيح بالقول تنزيهاً لله تعالى عما لا يليق به { قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } يعني صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر عن قتادة وابن زيد.
{ ومن الليل فسبحه } يعني المغرب والعشاء الآخرة. وقيل: ومن الليل يعني صلاة الليل ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء عن مجاهد وروي عن أبي عبد الله (ع) إنه سئل عن قوله { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } فقال تقول حين تصبح وحين تمسي عشر مرات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير { وأدبار السجود } فيه أقوال:
أحدها: أن المراد به الركعتان بعد المغرب وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر عن علي بن أبي طالب (ع) والحسن بن علي (ع) والحسن والشعبي وعن ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وثانيها: أنه التسبيح بعد كل صلاة عن ابن عباس ومجاهد وثالثها: أنه النوافل بعد المفروضات عن ابن زيد والجبائي ورابعها: أنه الوتر من آخر الليل روي ذلك عن أبي عبد الله (ع).