التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى
٣١
ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ
٣٢
أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ
٣٣
وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ
٣٤
أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
٣٥
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
٣٦
وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ
٣٧
أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
٣٨
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ
٣٩
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
٤٠
ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ
٤١
-النجم

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: قال الفراء اللمم أن يفعل الإنسان الشيء في الحين ولا يكون له عادة ومنه إلمام الخيال والإلمام الزيارة التي لا تمتد وكذلك اللمام قال أمية:

إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْــدٍ لَكَ لا أَلَمَّـــــا

وقد روي أن إلنبي صلى الله عليه وسلم كان ينشدهما ويقولهما أي لم يلم بمعصية وقال أعشى باهله:

تَكْفِيـــهِ حُـــزَّةُ فِلْذ إن أَلَــمَّ بِهـــــا مِنَ الشَّواءِ وَيَرْوي شُرْبَهُ الغُمْرُ

أجنة جمع جنين قال رؤبة:

أَجِنَّةٌ في مُسْتَكِنَّاتِ الحَلَقْ

وقال عمرو بن كلثوم:

وَلا شَمْطاءُ لَمْ يَتْرُكْ شَقاها لَهــا مِنْ تِسْعَـةٍ إِلاَّ جَنينا

أي دفيناً في قبره وأكدى أي قطع العطاء كما تقطع البئر الماء واشتقاقه من كدية الركية وهي صلابة تمنع الماء إذا بلغ الحافر إليها يئس من الماء فيقال أكدى إذا بلغ الكُدية ويقال كديت أصابعه إذا كلت فلم تعمل شيئاً وكديت أظفاره إذا غلظت وكدى النبت إذا قل ريعه والأصل واحد فيها.
الإعراب: إلا اللمم منصوب على الاستثناء من الإثم والفواحش لأن اللمم دونهما إلا أنه منهما. إذ أنشأكم العامل في إذ قوله أعلم بكم في بطون أمهاتكم يجوز أن يتعلق بنفس أجنة وتقديره إذ أنتم مستترون في بطون أمهاتكم ويجوز أن يتعلق بمحذوف فيكون صفة لأجنة وقوله ألا تزر وازرة وزر أخرى تقديره أنه لا تزر وهو في موضع جبر بدلاً من قوله ما في صحف موسى وما اسم موصول.
النزول: نزلت الآيات السبع أفرأيت الذي تولى في عثمان بن عفان كان يتصدق وينفق ماله فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوباً وإني أطلب بما أصنع رضى الله وأرجو عفوه فقال له عبد الله: أعطني ناقتك وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الصدقة فنزلت أفرأيت الذي تولى أي يوم أحد حين ترك المركز وأعطى قليلاً ثم قطع نفقته إلى قوله وإن سعيه سوف يرى فعاد عثمان إلى ما كان عليه عن ابن عباس والسدّي والكلبي وجماعة من المفسرين .
وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقالوا تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار قال إني خشيت عذاب الله فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ففعل فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه تمام ما ضمن له فنزلت أفرأيت الذي تولى عن الإيمان وأعطى صاحبه الضامن قليلاً وأكدى أي بخل بالباقي عن مجاهد وابن زيد.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه ربما كان يوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور عن السدي.
وقيل: نزلت في رجل قال لأهله جهزوني حتى انطلق إلى هذا الرجل يريد النبي صلى الله عليه وسلم فتجهز وخرج فلقيه رجل من الكفار فقال له أين تريد فقال محمداً لعلي أصيب من خيره قال له الرجل أعطني جهازك واحمل عنك إثمك عن عطاء بن يسار.
وقيل: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله أعطى قليلاً وأكدى أي لم يؤمن به عن محمد بن كعب القرظي.
المعنى: ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته وسعة ملكه فقال { ولله ما في السماوات وما في الأرض } وهذا اعتراض بين الآية الأولى وبين قوله { ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا } واللام في ليجزي تتعلق بمعنى الآية الأولى لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا منهم بما يستحقه وذلك لام العاقبة وذلك أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك ولذلك أخبر به في قوله ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي في الآخرة الذين أساؤوا أي أشركوا بما عملوا من الشرك.
{ ويجزي الذين أحسنوا } أي وحدوا ربهم { بالحسنى } أي الجنة. وقيل: إن اللام في ليجزي يتعلق بما في قوله ولله ما في السموات وما في الأرض لأن المعنى في ذلك أنه خلقهم ليتعبدهم فمنهم المحسن ومنهم المسيء وإنما كلفهم ليجزي كلا منهم بعلمه عمله فتكون اللام للغرض.
ثم وصف سبحانه الذين أحسنوا فقال { الذين يجتنبون كبائر الإثم } أي عظائم الذنوب { والفواحش } جمع فاحشة وهي أقبح الذنوب وأفحشها وقد بينا اختلاف الناس في الكبائر في سورة النساء وقد قيل إن الكبيرة كل ذنب ختم بالنار والفاحشة كل ذنب فيه الحد ومن قرأ كبير الإثم فلأنه يضاف إلى واحد في اللفظ وإن كان يراد به الكثرة.
{ إلا اللمم } اختلف في معناه فقيل هو صغار الذنوب كالنظر والقبلة وما كان دون الزنا عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي. وقيل: هو ما ألمّوا به في الجاهلية من الإثم فهو معفو عنه في الإسلام عن زيد بن ثابت وعلى هذا فيكون الاستثناء منقطعاً. وقيل: هو أن يلم بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود عن الحسن والسدي وهو اختيار الزجاج لأنه قال اللمم هو أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية ولم يقم على ذلك ويدل على ذلك قوله { إن ربك واسع المغفرة } قال ابن عباس لمن فعل ذلك وتاب ومعناه إن رحمته تسع جميع الذنوب لا تضيق عنه الكلام هنا.
ثم قال { هو أعلم بكم } يعني قبل أن خلقكم { إذ أنشأكم من الأرض } أي أنشأ أباكم آدم من أديم الأرض وقال البلخي يجوز أن يكون المراد به جميع الخلق أي خلقكم من الأرض عند تناول الأغذية المخصوصة التي خلقها من الأرض وأجرى العادة بخلق الأشياء عند ضرب من تركيبها فكأنه سبحانه أنشأهم منها { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } أي في وقت كونكم أجنة في الأرحام أي علم من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة عن الحسن. وقيل: معناه أنه سبحانه علم ضعفكم وميل طباعكم إلى اللمم وعلم حين كنتم في الأرحام ما تفعلون إذا خرجتم وإذا علم ذلك منكم قبل وجوده فكيف لا يعلم ما حصل منكم.
{ فلا تزكوا أنفسكم } أي لا تعظموها ولا تمدحوها بما ليس لها فإني أعلم بها. وقيل: معناه لا تزكوها بما فيها من الخير ليكون أقرب إلى النسك والخشوع وأبعد من الرياء { هو أعلم بمن اتقى } أي اتقى الشرك والكبائر. وقيل: هو اعلم بمن بر وأطاع وأخلص العمل.
{ أفرأيت الذي تولى } أي أدبر عن الحق { وأعطى قليلاً وأكدى } أي أمسك عن العطية وقطع عن الفراء. وقيل: منع منعاً شديداً عن المبرد { أعنده علم الغيب } أي ما غاب عنه من أمر العذاب { فهو يرى } أي يعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } أي بل ألم يخبر ولم يحدث بما في أسفار التوراة { وإبراهيم } أي وفي صحف إبراهيم { الذي وفّى } أي تمم وأكمل ما أمر به. وقيل: بلغ قومه وأدى ما أمر به إليهم. وقيل: أكمل ما أوجب الله عليه من كل ما أمر وامتحن به.
ثم بين ما في صحفهما فقال { ألا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى والمعنى لا تؤخذ نفس بإثم غيرها { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } عطف على قوله ألا تزر وهذا أيضاً ما في صحف إبراهيم وموسى أي ليس له من الجزاء ألا جزاء ما عمله دون عمله غيره ومتى دعا غيره إلى الإيمان فأجابه إليه فهو محمود على ذلك على طريق التبع وكأنه من أجل عمله صار له الحمد على هذا ولو لم يعمل شيئاً لما استحق جزاء لا ثواباً ولا عقاباً عن ابن عباس في رواية الوالبي قال إن هذا منسوخ الحكم في شريعتنا لأنه سبحانه يقول
{ { ألحقنا بهم ذريتهم } [الطور: 21] رفع درجة الذرية وإن لم يستحقوها بأعمالهم ونحو هذا قال عكرمة إن ذلك لقوم إبراهيم وموسى فأما هذه الأمة فلهم ما سعى غيرهم نيابة عنهم ومن قال إنه غير منسوخ الحكم قال الآية تدل على منع النيابة في الطاعات إلا ما قام عليه الدليل كالحج وهو "أن امرأة قالت يا رسول الله أن أبي لم يحج قال: فحجي عنه" .
{ وأن سعيه سوف يرى } يعني أن ما يفعله الإنسان ويسعى فيه لا بد أن يرى فيما بعد بمعنى أنه يجازي عليه وبين ذلك بقوله { ثم يجزاه الجزآء الأوفى } أي يجازى على الطاعات بأوفى ما يستحقه من الثواب الدائم والهاء في يجزاه عائدة إلى السعي والمعنى أنّه يرى العبد سعيه يوم القيامة ثم يجزى سعيه أوفى الجزاء.