التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
١
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ
٢
وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٣
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ
٤
عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ
٧
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
٨
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ
١٠
-النجم

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: أمال حمزة والكسائي وخلف أواخر آيات هذه السورة كلها وجميع أشباهها وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وكذلك كل سورة آياتها على الياء مثل سورة طه والشمس وضحاها والليل إذا يغشى والضحى وأشباهها وكل ما كان على وزن فعلى أو فُعلى أو فِعلى في جميع القرآن فإن أبا عمرو يقرؤها بين الفتح والكسر أيضاً في رواية شجاع وأكثر الروايات عن اليزيدي والباقون يفتحون ويفخمون وابن كثير وعاصم أشد تفخيماً في ذلك كله.
الحجة: أما ترك الإمالة والتفخيم للألف فهو قول كثير من الناس والأمالة أيضاً قول كثير منهم فمن ترك كان مصيباً ومن أخذ بها كان مصيباً.
اللغة: الهُويّ والنزول والسقوط نظائر هوى يهوى هَويا أو هُوياً قال الهذلي:

وَإِذا رَمَيْــتَ بِهِ الفِجاجَ رَأَيْتَهُ يَهْوي مَخارِمَها هُوِيّ الأَجْدَلِ

ومنه سميت الهاوية لأنها تهوي بأهلها من أعلاها إلى أسفلها والغي الخيبة ومنه الغواية والوحي إلقاء المعنى إلى النفس في خفية إلا أنه صار كالعلم فيما يلقيه الملك إلى النبي من البشر عن الله تعالى ومنه قوله { { وأوحى ربك إلى النحل } } [النحل: 68] أي ألهمها مراشدها والقوة القدرة وأصله الشدة وأصل المرة شدة الفتل ثم تجري المرة على القدرة فالمرة والقوة والشدة نظائر والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق وقد سمي نواحي الأرض آفاقاً على التشبيه قال الشاعر في المعنى الأول:

أَخَذْنــا بِآفاقِ السَّمــاءِ عَلَيْكُمُ لَنا قَمَراها وَالنُّجُومُ الطَّوالِعُ

وقال امرؤ القيس في المعنى الثاني:

لَقَدْ طَوَّفْتَ في الأَفاقِ حَتَّى رَضيتُ مِنَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ

والتدلي الامتداد إلى جهة السفل يقال دلاه صاحبه فتدلى والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء.
الإعراب: وهو بالأفق الأعلى مبتدأ وخبر في موضع الحال وقال الفراء هو معطوف على الضمير في استوى أي استوى جبرائيل والنبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى والتقدير استوي هو وهو قال وحسن ذلك لئلا يتكرر هو وأنشد:

أَلَمْ تَـــرَ بأَنَّ النَّبْـــعَ يَصْلُبُ عُودُهُ وَلاَ يَسْتَوي والخِرْوَعُ المُتَقَصِّفُ

قال الزجاج وهذا لا يجوز إلا في الشعر لأنهم يستقبحون استويت وزيد وإنما المعنى فاستوى جبرائيل وهو بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية لأنه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل فأَحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق.
المعنى: { والنجم إذا هوى } قيل في معناه أقوال أحدها: أن الله أقسم بالقرآن إذ أنزل نجوماً متفرقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة عن الضحاك ومجاهد والكلبي فسمي القرآن نجماً لتفرقه في النزول والعرب تسمي التفريق تنجيماً والمفرق منجماً وثانيها: أنه أراد بالنجم الثريا أقسم بها إذا سقطت وغابت مع الفجر عن ابن عباس ومجاهد والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة قال أبوذؤيب:

فَوَرَدْنَ وَالعَيُّوقُ مَقْعَدَ رابِئ الضُّرَباءِ فَوْقَ النَّجْمِ لا يَتَتَلَّعُ

قال ابن دريد والثريا سبعة أنجم ستة ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم وثالثها: أن المراد به جماعة النجوم إذا هوت أي سقطت وغابت وخفيت عن الحسن وأراد به الجنس كما قال الراعي:

وَباتَ يَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحيرَةٍ سَرِيعٍ بِأَيْدي الأَكِلينَ جُمودُها

ثم قيل أشار بأفول النجم إلى طلوعه لأن ما يأفل يطلع فاستدل بأفوله وطلوعه على وحدانية الله تعالى وحركات النجم توصف بالهوي عن الجبائي. وقيل: إن هويّه سقوطه يوم القيامة فيكون كقوله { { وإذا الكواكب انتثرت } [الانفطار: 2] عن الحسن ورابعها: أنه يعني به الرجوم من النجوم وهو ما يرمي به الشياطين عند استراق السمع عن ابن عباس وروت العامة عن جعفر الصادق (ع) أنه قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل من السماء السابعة ليلة المعراج "ولما نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلق ابنته وتفل في وجهه وقال كفرت بالنجم وبرب النجم فدعا صلى الله عليه وسلم عليه وقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فخرج عتبة إلى الشام فنزل في بعض الطريق وألقى الله عليه الرعب فقال لأصحابه أنيموني بينكم ليلاً ففعلوا فجاء أسد فافترسه من بين الناس" وفي ذلك يقول حسان:

سائِلْ بَنِي الأَصْفَرِ إِنْ جِئْتَهُ مـــا كــــانَ أَنْباءُ بَني واسِعٍ
لا وَسَّـــعَ اللهُ لَــهُ قَبْــــرَهُ بَلْ ضَيَّــقَ اللُه عَلـى القاطِعِ
رَمـــى رَسُولَ الله مِنْ بَيْنِهِمْ دُونَ قُــرَيْشٍ رَمْيَــةَ القـاذِعِ
وَاسْتَوْجَـبَ الدَّعْوَة مِنْـهُ بِما بُيِّـــنَ لِلنَّاظِـــرِ والسَّامِــــعِ
فَسَلَّــــطَ اللهُ بِـــهِ كَلْبَـــه يَمْشي الهُوَيَنا مِشْيَةَ الخادِعِ
وَالتَقَــمَ الــرَّأْسَ بِيافُوخِــه وَالنَّحْـــرَ مِنْــهُ قَفْرَةَ الجائِعِ
مَـنْ يَرْجِـــعِ العـامَ إلى أَهْلِهِ فَمـا أَكيـلُ السَّبْــعِ بِالرَّاجِـعِ
قَــدْ كــانَ هــذا لَكُـمُ عِبْرَةً لِلسَّيِدِ المَتْبُـــوعِ وَالتَّابِـــعِ

{ ما ضل صاحبكم وما غوى } يعني النبي أي ما عدل عن الحق وما فارق الهدى إلى الضلال وما غوى فيما يؤديه إليكم ومعنى غوى ضل وإنما أعاده تأكيداً. وقيل: معناه ما خاب عن إصابة الرشد. وقيل: ما خاب سعيه بل ينال ثواب الله وكرامته.
{ وما ينطق عن الهوى } أي وليس ينطق بالهوى وهكذا كما يقال رميت بالقوس وعن القوس. وقيل: معناه ولا يتكلم بالقرآن وما يؤديه إليكم عن الهوى الذي هو ميل الطبع.
{ إن هو إلا وحي يوحى } أي ما القرآن وما ينطق به من الأحكام إلا وحي من الله يوحى إليه أي يأتيه به جبرائيل وهو قوله { علمه شديد القوى } يعني جبرائيل (ع) أي القوي في نفسه وخلقته عن ابن عباس والربيع وقتادة والقوى جمع القوة.
{ ذو مرة } أي ذو قوة وشدة في خلقه عن الكلبي قال ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود فرفعها إلى السماء ثم قبلها ومن شدته صيحته لقوم ثمود حتى هلكوا. وقيل: معناه ذو صحة وخلق حسن عن ابن عباس وقتادة. وقيل: شديد القوى في ذات الله ذو مرة أي صحة في الجسم سليم من الآفات والعيوب. وقيل: ذو مرة أي ذو مرور في الهواء ذاهباً وجائياً ونازلاً وصاعداً عن الجبائي { فاستوى } جبرائيل على صورته التي خلق عليها بعد انحداره إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
{ وهو } كناية عن جبرائيل (ع) أيضاً { بالأفق الأعلى } يعني أفق المشرق والمراد بالأعلى جانب المشرق وهو فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء قالوا: إن جبرائيل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين فسأله النبي أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء أما في الأرض ففي الأفق الأعلى وذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبرائيل (ع) من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فنزل جبرائيل (ع) في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وهو قوله { ثم دنا فتدلى } وتقديره ثم تدلى أي قرب بعد بعده وعلوه في الأفق الأعلى فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم قال الحسن وقتادة ثم دنا جبرائيل (ع) بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال الزجاج معنى دنا وتدلى واحد لأن معنى دنا قرب وتدلى زاد في القرب كما تقول قد دنا مني فلان وقرب ولو قلت قرب مني ودنا جاز. وقيل: إن المعنى استوى جبرائيل (ع) أي ارتفع وعلا إلى السماء بعد أن علّم محمداً صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن المسيب. وقيل: استوى أي اعتدل واقفاً في الهواء بعد أن كان ينزل بسرعة ليراه النبي صلى الله عليه وسلم عن الجبائي. وقيل: معناه استوى جبرائيل (ع) ومحمد صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى يعني السماء الدنيا ليلة المعراج عن الفراء .
{ فكان قاب قوسين } أي كان ما بين جبرائيل ورسول الله قاب قوسين والقوس ما يرمى به عن مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس وخصت بالذكر على عادتهم يقال قاب قوسين وقيب قوس وقيد قوس وقاد قوس وهو اختيار الزجاج. وقيل: معناه وكان قدر ذراعين عن عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير وشقيق بن سلمة وروي مرفوعاً عن أنس بن مالك قال
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله فكان قاب قوسين أو أدنى قال: قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين" فعلى هذا يكون معنى القوس ما يقاس به الشيء والذراع يقاس به قال ابن السكيت: قاس الشيء يقوسه قوساً لغة في قاسه يقيسه إذا قدره.
وقوله { أو أدنى } قال الزجاج إن العباد قد خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم. وقيل: لهم في هذا ما يقال للذي يحدد فالمعنى فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك وهو كقوله أو يزيدون وقد مر القول فيه وقال عبد الله بن مسعود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جبرائيل (ع) وله ستمائة جناح أورده البخاري ومسلم في الصحيح.
{ فأوحى إلى عبده ما أوحى } أي فأوحى الله على لسان جبرائيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى وما يحتمل أن تكون مصدرية ويحتمل أن تكون بمعنى الذي. وقيل: معناه فأوحى جبرائيل (ع) إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله تعالى إليه عن الحسن والربيع وابن زيد وهو رواية عطاء عن ابن عباس وقال سعيد بن جبير أوحى إليه
{ { ألم يجدك يتيماً فآوى } [الضحى: 6] إلى قوله { { ورفعنا لك ذكرك } [الشرح: 4]. وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. وقيل: أوحى الله إليه سراً بسرّ وفي ذلك يقول القائل:

بَيْنَ المُحبِّيَ سِرّ لَيْسَ يُفْشيه قَـوْلٌ وَلا قَلَمٌ لِلْخَلْقِ يَحْكيهِ
سِـــرٌّ يُمـازِجُـهُ أُنْسُّ يُقابِلُهُ نُورٌ تَحَيَّرَ في بَحْر مِنْ التَّيهِ