التفاسير

< >
عرض

أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ
٤٣
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
٤٤
سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ
٤٥
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ
٤٦
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٤٧
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
٤٨
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
٤٩
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ
٥٠
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٥١
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ يعقوب عن رويس سنهزم الجمع والباقون سيهزم الجمع وفي الشواذ قراءة أبي السماك أنا كل شيء بالرفع وقراءة زهير والقرقني والأعمش ونهر بضمتين.
الحجة: قال ابن جني الرفع في قوله { إنا كل شيء خلقناه } أقوى من النصب وإن كانت الجماعة على النصب وذلك أنه من مواضع الابتداء فهو كقولك زيد ضربته وهو مذهب صاحب الكتاب لأنها جملة وقعت في الأصل خبراً عن المبتدأ في قولك نحن كل شيء خلقناه بقدر فهو كقولك زيد هند ضربها ثم دخلت أنّ فنصبت الاسم وبقي الخبر على تركيبه الذي كان عليه واختيار محمد بن يزيد النصب لأن تقديره إنا فعلنا كذا قال والفعل منتظر بعد أنا فلما دل عليه ما قبله حسن إضماره قال ابن جني وهذا ليس بشيء لأن الأصل في خبر المبتدأ أن يكون اسماً لا فعلاً جزاء منفرداً فما معنى توقع الفعل هنا وخبر إن وأخواتها كأخبار المبتدأ وقوله نُهُر جمع نَهَر فيكون كأُسد وأَسَد ووُثُن وبجوز أن يكون جمع نَهْر كسُقُف وسَقْف ورُهُن ورَهْن.
المعنى: ثم خوَف سبحانه كفار مكة فقال { أكفاركم خير } وأشد وأقوى { من أولٰئكم } الذين ذكرناهم وقد أهلكناهم وهذا استفهام إنكاري أي لستم أفضل من قوم نوح وعاد وثمود لا في القوة ولا في الثروة ولا في كثرة العدد والعدة والمراد بالخير ما يتعلق بأسباب الدنيا لا أسباب الدين والمعنى أنه إذا هلك أولئك الكفار فما الذي يؤمّنكم أن ينزل بكم ما نزل بهم { أم لكم برآءة في الزبر } أي ألكم براءة من العذاب في الكتب السالفة أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية.
{ أم يقولون نحن جميع منتصر } أي أم يقول هؤلاء الكفار نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا عن الكلبي والمعنى أنهم يقولون نحن يد واحدة على من خالفنا ننتصر ممن عادانا فيدلون بقوتهم واجتماعهم ووحد منتصر للفظ الجميع فإنه واحد في اللفظ وإن كان اسماً للجماعة كالرهط والجيش أي كما أنهم ليسوا بخير من أولئك ولا لهم براءة فكذلك لا جمع لهم يمنع عنهم عذاب الله وينصرهم وإن قالوا نحن مجتمعون متناصرون فلا نرام ولا نقصد ولا يطمع أحد في غلبتنا.
ثم قال سبحانه { سيهزم الجمع } أي جمع كفار مكة { ويولون الدبر } أي ينهزمون فيولونكم أدبارهم في الهزيمة ثم أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيظهره عليهم ويهزمهم فكانت هذه الهزيمة يوم بدر فكان موافقة الخبر للمخبر من معجزاته.
ثم قال سبحانه { بل الساعة موعدهم } أي أن موعد الجميع للعذاب يوم القيامة { والساعة أدهى وأمر } فالأدهى الأعظم في الدهاء والدهاء عظم سبب الضرر مع شدة انزعاج النفس وهو من الداهية أي البلية التي ليس في إزالتها حيلة والمعنى أن ما يجري عليهم من القتل والأسر يوم بدر وغيره لا يخلصهم من عقاب الآخرة بل عذاب الآخرة أعظم في الضرر وأقطع وأمرّ أي أشد مرارة من القتل والأسر في الدنيا. وقيل: الأمرّ الأشد في استمرار البلاء لأن أصل المر النفوذ.
ثم بيّن سبحانه حال القيامة فقال { إن المجرمين في ضلال وسعر } أي في ذهاب عن وجه النجاة وطريق الجنة في نار مسعرة عن الجبائي. وقيل: في ضلال أي في هلاك وذهاب عن الحق وسعر أي عناء وعذاب { يوم يسحبون } أي يجرّون { في النار على وجوههم } يعني أن هذا العذاب يكون لهم في يوم يجرهم الملائكة فيه على وجوههم في النار ويقال لهم { ذوقوا مَسَّ سقر } يعني أصابتها إياهم بعذابها وحرّها وهو كقولهم وجدت مس الحمى وسقر جهنم. وقيل: هي باب من أبوابها وأصل السقر التلويح يقال سقرته الشمس وصقرته إذا لوحته وإنما لم ينصرف للتعريف والتأنيث.
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } أي خلقنا كل شيء خلقناه مقدراً بمقدار توجبه الحكمة لم نخلقه جزافاً ولا تخبيتاً فخلقنا العذاب أيضاً على قدر الاستحقاق وكذلك كل شيء في الدنيا والآخرة خلقناه مقدراً بمقدار معلوم عن الجبائي. وقيل: معناه خلقنا كل شيء على قدر معلوم فخلقنا اللسان للكلام واليد للبطش والرجل للمشي والعين للنظر والأذن للسماع والمعدة للطعام ولو زاد أو نقص عما قدرناه لما تم الغرض عن الحسن. وقيل: معناه جعلنا لكل شيء شكلاً يوافقه ويصلح له كالمرأة للرجل والأتان للحمار وثياب الرجال للرجال وثياب النساء للنساء عن ابن عباس. وقيل: خلقنا كل شيء بقدر مقدر وقضاء محتوم في اللوح المحفوظ.
{ وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } أي وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر عن ابن عباس والكلبي ومعنى اللمح النظر بالعجلة وهو خطف البصر والمعنى إذا أردنا قيام الساعة أعدنا الخلق وجميع المخلوقات في قدر لمح البصر في السرعة. وقيل: معناه وما أمرنا إذا أردنا أن نكون شيئاً إلا مرة واحدة لم نحتج فيه إلى ثانية وإنما نقول له كن فيكون كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير عن الجبائي.
{ ولقد أهلكنا أشياعكم } أي أشباهكم ونظائركم في الكفر من الأمم الماضية عن الحسن وسماهم أشياعهم لما وافقوهم في الكفر وتكذيب الأنبياء { فهل من مدكر } أي فهل من متذكر لما يوجبه هذا الوعظ من الانزجار عن مثل ما سلف من أعمال الكفار لئلا يقع به ما وقع بهم من الإهلاك.
{ وكل شيء فعلوه في الزبر } أي في الكتب التي كتبها الحفظة وهذه إشارة إلى أنهم غير مغفول عنهم عن الجبائي. وقيل معناه أن جميع ذلك مكتوب عليهم في الكتاب المحفوظ لأنه من أعظم العبرة في علم ما يكون قبل أن يكون على التفصيل.
{ وكل صغير وكبير مستطر } أي وما قدموه من أعمالهم من صغير وكبير مكتوب عليهم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وقيل: معناه كل صغير وكبير من الأرزاق والآجال والموت والحياة ونحوها مكتوب في اللوح المحفوظ.
{ إن المتقين في جنات ونهر } أي أنهار يعني أنهار الجنة من الماء والخمر والعسل وضع نهر في موضع أنهار لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل والأولى أن يكون إنما وحّد لوفاق الفواصل والنهر هو المجرى الواسع من مجاري الماء.
{ في مقعد صدق } أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم. وقيل: وصفه بالصدق لكونه رفيعاً مرضياً. وقيل: لدوام النعيم به. وقيل: لأن الله صدق وعد أوليائه فيه { عند مليك مقتدر } أي عند الله سبحانه فهو المالك القادر الذي لا يعجزه شيء وليس المراد قرب المكان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً بل المراد أنهم في كنفه وجواره وكفايته حيث تنالهم غواشي رحمته وفضله.