التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ
١٤
وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ
١٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٦
رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ
١٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٨
مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
١٩
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
٢٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢١
يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ
٢٢
فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٣
وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٢٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٥
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
-الرحمن

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة والبصرة يخرج منهما بضم الياء وفتح الراء والباقون يخرج بفتح الياء وضم الراء وقرأ حمزة ويحيى عن أبي بكر المنشئات بكسر الشين والباقون بفتح الشين.
الحجة: قال أبو علي من قرأ يُخرج كان قوله بيّناً لأن ذلك إنما يُخرج ولا يخرج بنفسه ومن قرأ يخرج جعل الفعل للؤلؤ والمرجان وهو اتساع لأنه إذا خرج ذلك فقد خرج وقال يخرج منهما اللؤلؤ ولم يقل من أحدهما على حذف المضاف كما قال
{ { على رجل من القريتين عظيم } [الزخرف: 31] على ذلك وقال أبو الحسن زعم قوم أنه يخرج من العذاب أيضاً والمرجان صغار اللؤلؤ واحدها مرجانة قال ذو الرمة:

كَأَنَّ عُرَى الْمَرْجانِ مِنْهَا تَعَلَّقَتْ عَلى أُمّ خَشْفٍ مِنْ ظِباءِ الْمَشاقِرِ

والمنشآت المجردات المرفوعات فمن فتح الشين فلأنها أنشئت وأجريت ولم تفعل ذلك أنفسها ومن قرأ المنشئات نسب الفعل إليها على الاتساع كما يقال: مات زيد ومرض عمرو ونحو ذلك مما يضاف الفعل إليه إذا وجد فيه وهو في الحقيقة لغيره وكان المعنى المنشئات السير فحذف المفعول للعلم به وإضافة السير إليها اتساع أيضاً لأن سيرها إنما يكون في الحقيقة بهبوب الريح أو دفع الصراري.
اللغة: الصلصال الطين اليابس الذي يسمع منه صلصلة والفخار الطين الذي طبخ بالنار حتى صار خزفاً والمارج المضطرب المتحرك. وقيل: المختلط مرج الأمر أي اختلط ومرجت عهود القوم وأماناتهم قال الشاعر:

مَــرَجَ الدَّيــنُ فأَعْـــدَدْتُ لَـهُ مُشْرِفُ الحارِكِ مَحْبُوكَ الْكَتَدْ

ومرج الدابة في المرعى إذا خلاها لترعى والبرزخ الحاجز بين الشيئين والجواري السفن لأنها تجري في الماء واحدتها جارية ومنه الجارية للمرأة الشابة لأنها يجري فيها ماء الشباب والأعلام الجبال واحدها علم قالت الخنساء:

وإنَّ صَخْراً لَتَأتَمُّ الْهَدَاةُ بِهِ كَأَنَّــــهُ عَلَــمٌ في رَأسِهِ نارُ

وقال جرير:

إذا قطعن علماً بدا علما

والفناء انتفاء الأجسام والصحيح أنه معنى يضاد الجواهر باق لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد وضده الفناء.
المعنى: ثم قال سبحانه عاطفاً على ما تقدم من الأدلة على وحدانيته والإِبانة عن نعمه على خلقه فقال { خلق الإِنسان } يعني به آدم. وقيل: جميع البشر لأن أصلهم آدم (ع) { من صلصال } أي طين يابس. وقيل: حمأ منتن ويحتمل الوجهين جميعاً لأنه كان حمأ مسنوناً ثم صار يابساً { كالفخار } أي كالآجر والخزف.
{ وخلق الجآن } أي أبا الجن قال الحسن هو إبليس أبو الجن وهو مخلوق من لهب النار كما أن آدم (ع) مخلوق من طين { من مارج من نار } أي من نار مختلط أحمر وأسود وأبيض عن مجاهد. وقيل: المارج الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } فبأي نعمه تكذبان أيها الثقلان أي أبأن خلقكما من نفس واحدة ونقلكما من التراب والنار إلى الصورة التي أنتم عليها تكذبان { رب المشرقين ورب المغربين } يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء. وقيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرب الشمس والقمر بين سبحانه قدرته على تصريف الشمس والقمر ومن قدر على ذلك قدر على كل شيء.
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان } ذكر سبحانه عظيم قدرته حيث خلق البحرين العذب والمالح يلتقيان ثم لا يختلط أحدهما بالآخر وهو قوله { بينهما برزخ } أي حاجز من قدرة الله فلا يبغي الملح على العذب فيفسده ولا العذب على الملح فيفسده ويختلط به ومعنى مرج أرسل عن ابن عباس. وقيل: المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض فإن في السماء بحراً يمسكه الله بقدرته ينزل منه المطر فيلتقيان في كل سنة وبينهما حاجز يمنع بحر السماء من النزول وبحر الأرض من الصعود عن ابن عباس والضحاك ومجاهد. وقيل: إنهما بحر فارس وبحر الروم عن الحسن وقتادة فإن آخر طرف هذا يتصل بآخر طرف ذلك والبرزخ بينهما الجزائر. وقيل: مرج البحرين خلط طرفيهما عند التقائهما من غير أن يختلط جملتهما لا يبغيان أي لا يطلبان أن لا يختلطا.
{ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك. وقيل: المرجان خرز أحمر كالقضبان يخرج من البحر وهو السد عن عطاء الخراساني وأبي مالك وبه قال ابن مسعود لأنه قال حجر وإنما قال منهما وإنما يخرج من الملح دون العذب لأن الله سبحانه ذكرهما وجمعهما وهما بحر واحد فإذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما عن الزجاج قال الكلبي وهو مثل قوله
{ { وجعل القمر فيهن نوراً } [نوح: 16] وإنما هو واحدة منهن وقوله { { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } [الأنعام: 13] والرسل من الإنس دون الجن. وقيل: يخرج منهما أي من ماء السماء ومن ماء البحر فإن القطر إذا جاء من السماء تفتحت الأصداف فكان من ذلك القطر اللؤلؤ عن ابن عباس ولذلك حمل البحرين على بحر السماء وبحر الأرض. وقيل: إن العذب والملح يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للملح ولا يخرج اللؤلؤ إلا من الموضع الذي يلتقي فيه الملح والعذب وذلك معروف عند الغواصين.
وقد روي عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري أن البحرين علي وفاطمة عليهما السلام بينهما برزخ محمد صلى الله عليه وسلم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين عليهما السلام ولا غرو أن يكونا بحرين لسعة فضلهما وكثرة خيرهما فإن البحر إنما يسمى بحراً لسعته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفرس ركبه وأجراه فأحمده وجدته بحر أي كثير المعاني الحميدة.
{ وله الجوار } أي السفن الجارية في الماء تجري بأمر الله { المنشئات في البحر } أي المرفوعات وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت وطالت. وقيل: هي المبتدآت للسير مرفعة القلاع قال مجاهد ما رفع له القلاع فهو منشأ وما لم ترفع قلاعه فليس بمنشأ والقلاع جمع قلع وهو شراع السفينة { كالأعلام } أي كالجبال قال مقاتل شبه السفن في البحر بالجبال في البر. وقيل: المنشئات بكسر الشين وهي أن ينشئ الموج بصدرها حيث تجري فيكون الأمواج كالأعلام من الله سبحانه على عباده بأن علمهم اتخاذ السفن ليركبوها وإن جعل الماء على صفة تجري السفن عليه لأجلها.
{ كل من عليها فان } أي كل من على الأرض من حيوان فهو هالك يفنون ويخرجون من الوجود إلى العدم كنى عن الأرض وإن لم يجر لها ذكر كقول أهل المدينة ما بين لابتيها أي لابتي المدينة وإنما جاز ذلك لكونه معلوماً.
{ ويبقى وجه ربك } أي ويبقى ربك الظاهر بأدلته ظهور الإِنسان بوجهه { ذو الجلال } أي العظمة والكبرياء واستحقاق الحمد والمدح بإحسانه الذي هو في أعلى مراتب الإِحسان وإنعامه الذي هو أصل كل إنعام { والإِكرام } يكرم أنبياءه وأولياءه بألطافه وأفضاله مع عظمته وجلاله. وقيل: معناه أنه أهل أن يعظم وينزه عما لا يليق بصفاته كما يقول الإِنسان لغيره أنا أكرمك عن كذا وأجلّك عنه كقوله أهل التقوى أي أهل أن يتقى وتقول العرب هذا وجه الرأي وهذا وجه التدبير بمعنى أنه الرأي والتدبير قال الأعشى:

وَأَوَّلِ الْحُكْــمَ عَلــى وَجْهِهِ لَيْسَ قَضائي بِالْهَوى الْجائِرِ

أي قرر الحكم كما هو. وقيل: إن المراد بالوجه ما يتقرب به إلى الله تعالى وأنشد:

أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبَّ الْعِبادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

ومتى قيل وأي نعمة في الفناء فالجواب أن النعمة فيه التسوية بين الخلق فيه وأيضاً فإنه وصلة إلى الثواب وتنبيه على أنّ الدنيا لا تدوم وأيضاً فإنه لطف للمكلف لأنه لو عجل الثواب لصار ملجأ إلى العمل ولم يستحق الثواب ففصل بين الثواب والعمل ليفعل الطاعة لحسنها فيستحق الثواب.
{ يسأله من في السماوات والأرض } أي لا يستغني عنه أهل السموات والأرض فيسألونه حوائجهم عن قتادة. وقيل: يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل الملائكة لهم أيضاً الرزق وإلمغفرة عن مقاتل { كل يوم هو في شأن } اختلف في معناه فقيل: إن شانه سبحانه إحياء قوم وإماتة آخرين وعافية قوم ومرض آخرين وغير ذلك من الإهلاك والإنجاء والحرمان والإعطاء والأمور الأخر التي لا تحصى وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { كل يوم هو في شأن } قال:
"من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين" .
وعن ابن عباس أنه قال إن مما خلق الله تعالى لوحاً من درة بيضاء دواته ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله { كل يوم هو في شأن } وقال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
وقيل: إن الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة فالشأن الذي هو فيه في اليوم الذي هو مدة الدنيا الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب عن سفيان بن عيينة. وقيل: شأنه جل ذكره أن يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى الأرحام وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا وعسكراً من الدنيا إلى القبر ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى. وقيل: شأنه إيصال المنافع إليك ودفع المضار عنك فلا تغفل عن طاعة من لا يغفل عن برك عن أبي سليمان الداراني.