التفاسير

< >
عرض

إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
٢
خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ
٣
إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً
٤
وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً
٥
فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً
٦
وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً
٧
فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ
٨
وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ
٩
وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ
١٠
أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ
١١
فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
١٢
ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
١٤
عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ
١٥
مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ
١٦
-الواقعة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة الحسن والثقفي وأبي حيوة خافضة رافعة بالنصب.
الحجة: هذا منصوب على الحال قال ابن جني وقوله: { ليس لوقعتها كاذبة } حال أخرى قبلها أي إذا وقعت الواقعة صادقة الوقعة خافضة رافعة فهذه ثلاثة أحوال ومثله مررت بزيد جالساً متكأ ضاحكاً وإن شئت أن تأتي بأضعاف ذلك جاز وحسن كما أن لك أن تاتي للمبتدأ من الأخبار بما شئت فتقول زيد عالم جميل فارس كوفي بزاز ونحو ذلك ألا ترى أن الحال زيادة في الخبر وضرب منه.
اللغة: الكاذبة مصدر مثل العافية والعاقبة والرج التحريك باضطراب واهتزاز ومنه قولهم ارتج السهم عند خروجه من القوس والبس الفت كما يبس السويق أي يلت قال الشاعر:

لا تخبـزا خبـزاً وبسّــا بسّـــا

والبسيس السويق أو الدقيق يتخذ زاداً وبست أيضاً سيقت عن الزجاج قال الشاعر:

وأنبـس حيّـات الكثيــب الأهيــلِ

والهباء غبار كالشعاع في الرقة وكثيراً ما يخرج مع شعاع الشمس من الكوة النافذة والانبثاث افتراق الأجزاء الكثيرة في الجهات المختلفة والأزواج الأصناف التي بعضها مع بعض كما يقال للخفين زوجان والثلاثة الجماعة وأصله القطعة من قولهم ثل عرشه إذا قطع ملكه بهدم سريره والثلة القطعة من الناس والموضوئة المنسوجة المتداخلة كصفة الدرع المضاعفة قال الأعشى:

وَمِــنْ نَسْجِ داوُدَ مَوْضُوونَــةً تُساقُ إلى الحَيِّ عيراً فَعيرا

ومنه وضين الناقة وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفاً.
الإعراب: إِذا وقعت الواقعة ظرف من معنى ليس لأن التقدير لا يكون لوقعتها كاذبة وليس نفي الحال فلا يكون إذا ظرفاً منه ويجوز أن يكون العامل في إِذا محذوفاً لدلالة الموضع عليه كأنه قال: إذا وقعت الواقعة كذلك فاز المؤمنون وخسر الكافرون وقال أبو علي: تقديره فهي خافضة رافعة فأضمر المبتدأ مع الفاء وجعلها جواب إذا أي خفضت قوماً ورفعت قوماً إذ ذاك فخافضة رافعة خبر المبتدأ المحذوف وقوله { إذا رجت الأرض رجاً } بدل من قوله { إذا وقعت الواقعة } ويجوز أن يكون ظرفاً من يقع أي يقع في ذلك الوقت ويجوز أن يكون خبراً عن إذا الأولى ونظيره إذا تزورني إذاً أزور زيداً أي وقت زيارتك أياي وقت زيارتي زيداً قال ابن جني: ويجوز أن يفارق إذا الظرفية كقول لبيد:

حَتَّــى إِذا أَلْقَــتْ يَداً في كافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْراتِ الثُغُورِ ظَلامُها

وقوله سبحانه { { حتى إذا كنتم في الفلك } [يونس: 22] فإذا مجرورة عند أبي الحسن بحتى وذلك يخرجها من الظرفية وأقول فعلى هذا لا يكون قوله إذا ظرفا في الموضعين بل كل واحد منهما في موضع الرفع لكونهما مبتدأ وخبراً بخلاف ما ظنه بعض المجودين من محققي زماننا في النحو فإنه قال: قال عثمان يعني ابن جني العامل في إذا وقعت قوله إذا رجت وهذا خطأ فاحش فأصحاب الميمنة رفع بالابتداء والتقدير فأصحاب الميمنة ما هم أي أيُّ شيء هم وأصحاب المشئمة أي أي شيء هم وهذه اللفظة مجراة مجرى التعجب ومتكئين ومتقابلين نصب على الحال.
المعنى: { إذا وقعت الواقعة } أي إذا قامت القيامة عن ابن عباس والواقعة اسم القيامة كالآزفة وغيرها والمعنى إذا حدثت الحادثة وهي الصيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة. وقيل: سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة أو لشدة وقعها وتقديره اذكروا إذا وقعت الواقعة وهذا حث على الاستعداد لها.
{ ليس لوقعتها كاذبة } أي ليس لمجيئها وظهورها كذب ومعناه أنها تقع صدقاً وحقاً فليس فيها ولا في الإخبار عنها ووقوعها كذب. وقيل: معناه ليس لوقوعها قضية كاذبة أي ثبت وقوعها بالسمع والعقل.
{ خافضة رافعة } أي تخفض ناساً وترفع آخرين عن ابن عباس. وقيل: تخفض أقواماً إلى النار وترفع أقواماً إلى الجنة عن الحسن والجبائي والمعنى الجامع للقولين أنها تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين وتجعلهم أذلة بإدخالهم النار وترفع رجالاً كانوا في الدنيا أذلة وتجعلهم أعزة بإدخالهم الجنة.
{ إذا رجت الأرض رجاً } أي حركت حركة شديدة. وقيل: زلزلت زلزالاً شديداً عن ابن عباس وقتادة ومجاهد أي رجفت بإماتة من على ظهرها من الأحياء. وقيل: معناه رجت بما فيها كما يرج الغربال بما فيه فيكون المراد ترج بإخراج من في بطنها من الموتى.
{ وبست الجبال بساً } أي فتّت فتاً عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل. وقيل: معناه كسرت كسراً عن السدي عن سعيد بن المسيب. وقيل: قلعت من أصلها عن الحسن. وقيل: سيرت عن وجه الأرض تسييراً عن الكلبي. وقيل: بسطت بسطاً كالرمل والتراب عن ابن عطية. وقيل: جعلت كثيباً مهيلاً بعد أن كانت شامخة طويلة عن ابن كيسان { فكانت هباء منبثاً } أي غباراً متفرقاً كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة.
ثم وصف سبحانه أحوال الناس بأن قال { وكنتم أزواجاً ثلاثة } أي أصنافاً ثلاثة ثم فسرها فقال { فأصحاب الميمنة } يعني اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم عن الضحاك والجبائي. وقيل: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. وقيل: هم أصحاب اليمن والبركة على أنفسهم والثواب من الله سبحانه بما سعوا من الطاعة وهم التابعون بإحسان عن الحسن والربيع ثم عجب سبحانه رسوله من حالهم تفخيماً لشأنهم فقال { ما أصحاب الميمنة } أي أيّ شيء هم كما يقال هم ما هم.
{ وأصحاب المشئمة } وهم الذين يعطون كتبهم بشمالهم. وقيل: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. وقيل: هم المشائيم على أنفسهم بما عملوا من المعصية ثم عجب سبحانه رسوله من حالهم تفخيماً لشأنهم في العذاب فقال { ما أصحاب المشئمة }.
ثم بيَّن سبحانه الصنف الثالث فقال { والسابقون السابقون } أي والسابقون إلى اتباع الأنبياء الذين صاروا أئمة الهدى فهم السابقون إلى جزيل الثواب عند الله عن الجبائي. وقيل: معناه السابقون إلى طاعة الله وهم السابقون إلى رحمته والسابق إلى الخير إنما كان أفضل لأنه يقتدى به في الخير وسبق إلى أعلى المراتب قبل من يجيء بعده فلهذا يميز بين التابعين فعلى هذا يكون السابقون الثاني خبراً عن الأول ويجوز أن يكون الثاني تأكيداً للأول والخبر.
{ أولئك المقربون } أي والسابقون إلى الطاعات يقربون إلى رحمة الله في أعلى المراتب وإلى جزيل ثواب الله في أعظم الكرامة.
ثم أخبر تعالى أين محلهم فقال { في جنات النعيم } لئلا يتوهم متوهم أن التقريب يخرجهم إلى دار أخرى فأعلم سبحانه أنهم مقربون من كرامة الله في الجنة لأن الجنة درجات ومنازل بعضها أرفع من بعض وقد قيل في السابقين أنهم السابقون إلى الإيمان عن مقاتل وعكرمة. وقيل: السابقون إلى الهجرة عن ابن عباس. وقيل: إلى الصلوات الخمس عن علي (ع). وقيل: إلى الجهاد عن الضحاك. وقيل: إلى التوبة وأعمال البر عن سعيد بن جبير. وقيل: إلى كل ما دعا الله إليه عن ابن كيسان وهذا أولى لأنه يعم الجميع وكان عروة بن الزبير يقول تقدموا تقدموا وعن أبي جعفر (ع) قال: السابقون أربعة ابن آدم المقتول وسابق في أمة موسى (ع) وهو مؤمن آل فرعون وسابق في أمة عيسى (ع) وهو حبيب النجار والسابق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب (ع).
{ ثلة من الأولين } أي هم ثلة يعني جماعة كثيرة العدد من الأولين من الأمم الماضية { وقليل من الآخرين } من أمة محمد لأن من سبق إلى إجابة نبينا صلى الله عليه وسلم قليل بالإضافة إلى من سبق إلى إجابة النبيين قبله عن جماعة من المفسرين. وقيل: معناه جماعة من أوائل هذه الأمة وقليل من أواخرهم ممن قرب حالهم من حال أولئك قال مقاتل: يعني سابقي الأمم وقليل من الآخرين من هذه الأمة.
{ على سرر موضونة } أي منسوجة كما يوضن حلق الدرع فيدخل بعضها في بعض قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والجواهر { متكئين عليها } أي مستندين جالسين جلوس الملوك { متقابلين } أي متحاذين كل واحد منهم بإزاء الآخر وذلك أعظم في باب السرور والمعنى أن بعضهم ينظر إلى وجه بعض لا ينظر في قفاه لحسن معاشرتهم وتهذب أخلاقهم.