التفاسير

< >
عرض

سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢١
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٢٢
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
٢٣
ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٤
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
٢٥
-الحديد

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو عمرو { بما أتاكم } مقصوراً والباقون بالمد وقرأ أهل المدينة والشام { فإن الله الغني الحميد } لأنهم وجدوا في مصاحفهم كذلك والباقون { فإن الله هو الغني } بإثبات هو وكذلك هو في مصاحفهم.
الحجة: قال أبو علي: حجة من قصر أتيكم أنه معادل به فاتكم فكما أن الفعل للفائت في قوله { فاتكم } فكذلك للآتي في قوله بما آتيكم قال الشاعر:

وَلا فَــرِحٌ بِخَيْــرٍ إنْ أتــاهُ وَلاجَزِعٌ مِنَ الْحَدَثانِ لاعِ

وحجة من مدّ أن الخير الذي يأتيهم هو من عند الله وهو المعطي لذلك وفاعل آتاكم هو الضمير العائد إلى اسم الله والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه وقوله { إن الله هو الغني الحميد } ينبغي أن يكون هو فصلاً ولا يكون مبتدأ لأن الفصل حذفه أسهل ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإِعراب وقد يحذف فلا يخلّ بالمعنى.
اللغة: أعدت مشتقة من العدد والإعداد وضع الشيء لما يكون في المستقبل على ما يقتضيه من عدد الأمر الذي له. الفضل والإفضال واحد وهو النفع الذي كان للقادر أن يفعله بغيره وله أن لا يفعله والأسى الحزن والتأسي تخفيف الحزن بالمشاركة في حاله.
الإِعراب: في كتاب يتعلق بمحذف تقديره إلا هي كائنة في كتاب فهو في محل الرفع بأنه خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يتعلق بفعل محذوف تقديره ألا قد كتبت في كتاب فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال أي لا مكتوبة لكيلا تأسوا تأسوا منصوب بنفس كي واللام هي اللام الجارة، الذين يبخلون في موضع جر على البدل من مختال فخور فعلى هذا لا يجوز الوقف على فخور ويجوز أن يكون محله رفعاً على الابتداء ويكون خبره محذوفاً كما حذف جواب لو من قوله
{ { ولو أَنّ قرآناً سيّرت به الجبال } [الرعد: 31] ويكون التقدير الذين يبخلون فإنهم يستحقّون العذاب ويجوز أن يكون محله رفعاً أو نصباً على الذم.
المعنى: ثم رغب سبحانه في المسابقة لطلب الجنة فقال { سابقوا } أي بادروا العوارض القاطعة عن الأعمال الصالحة وسارعوا إلى ما يوجب الفوز في الآخرة { إلى مغفرة من ربكم } قال الكلبي: إلى التوبة. وقيل: إلى الصف الأول. وقيل: إلى النبي صلى الله عليه وسلم: { وجنة عرضعها كعرض السمآء والأرض } أي وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنة هذه صفتها وذكر في ذكر العرض دون الطول وجوه:
أحدها: أن عظم العرض يدل على عظم الطول والآخر: أن الطول قد يكون بلا عرض ولا يكون عرض بلا طول وثالثها: أن المراد به أن العرض مثل السماوات والأرض وطولها لا يعلمه إلا الله تعالى قال الحسن: إن الله يفني الجنة ثم يعيدها على ما وصفه فلذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض وقال غيره: إن الله قال: عرضها كعرض السماء والأرض والجنة المخلوقة في السماء السابعة فلا تنافى.
{ أعدت للذين أمنوا } أي ادّخرت وهيئت للمؤمنين { بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء } معناه أنه يجزي الدائم الباقي على القليل الفاني ولو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحق بالأعمال كان عدلاً منه لكنه تفضل بالزيادة. وقيل: معناه أن أحداً لا ينال خيراً في الدنيا والآخرة إلا بفضل الله سبحانه لو ولم يدعنا إلى الطاعة ولم يبين لنا الطريق ولم يوفقنا للعمل الصالح لما اهتدينا إليه وذلك كله من فضل الله وأيضاً فإنه سبحانه تفضل بالأسباب التي يفعل بها الطاعة من التمكين والإِلطاف وكمال العقل وعرض المكلف للثواب فالتكليف أيضاً تفضل وهو السبب الموصل إلى الثواب.
وقال أبو القاسم البلخي والبغداديون من أهل العدل إن الله سبحانه وتعالى لو اقتصر لعباده في طاعاتهم على مجرد إحساناته السالفة إليهم لكان عدلاً فلهذا جعل سبحانه الثواب والجنة فضلاً وفي هذه الآية أعظم رجاء لأهل الإِيمان لأنه ذكر أن الجنة معدّة للمؤمنين ولم يذكر مع الإِيمان شيئاً آخر { والله ذو الفضل العظيم } أي ذو الإِفضال العميم والإِحسان الجسيم إلى عباده.
ثم قال { ما أصاب من مصيبة في الأرض } مثل قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات { ولا في أنفسكم } من الأمراض والثكل بالأولاد { إلا في كتاب } يعني إلا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } أي من قبل أن نخلق الأنفس. المعنى أنه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها { إن ذلك على الله يسير } أي إثبات ذلك على كثرته هيّن على الله يسير سهل غير عسير.
ثم بيّن سبحانه لم فعل ذلك فقال { لكيلا تأسوا على ما فاتكم } أي فعلنا ذلك لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا { ولا تفرحوا بما آتكم } أي بما أعطاكم الله منها والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا أن الإِنسان إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى عليه العوض في الآخرة فلا ينبغي أن يحزن لذلك وإذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه والحقوق الواجبة فيه فلا ينبغي أن يفرح به وأيضاً فإذا علم أن شيئاً منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم له بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم ولا تبيد وفي هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء.
الأول: حسن الخلق لأن من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها لا يحسد ولا يعادي ولا يشاحّ فإن هذه من أسباب سوء الخلق وهي من نتائج حب الدنيا.
وثانيها: استحقار الدنيا وأهلها إذا لم يفرح بوجودها ولم يحزن لعدمها.
وثالثها: تعظيم الآخرة لما ينال فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب.
ورابعها: الافتخار بالله دون أسباب الدنيا ويروى أن علي بن الحسين (ع) جاءه رجل فقال له: ما الزهد فقال: الزهد عشرة أجزاء فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا وإن الزهد كله في آية من كتاب الله لكيلا تأسواعلى ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. وقيل لبزجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت فقال: إن الفائت لا يتلافى بالعبرة والآتي لا يستدام بالخبرة وعن عبد الله بن مسعود قال: لئن جمرة الحسرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إليّ من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن أو لشيء لم يكن ليته كان.
{ والله لا يحب كل مختال فخور } أي متكبر بما أوتي فخور على الناس بالدنيا.
{ الذين يبخلون } بمنع الواجبات { ويأمرون الناس بالبخل } وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن سيّد بني عوف فقالوا: جد بن قيس على أنه يُزنّ بالبخل فقال صلى الله عليه وسلم:
"وأيّ داء أدوى من البخل سيدكم البراء بن معرور" ومعنى يزن يتهم ويقرف { ومن يتول } أي يعرض عما دعاه الله إليه { فإن الله هو الغني } عنه وعن طاعته وصدقته { الحميد } في جميع أفعاله.
ثم أقسم سبحانه فقال { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي بالدلائل والمعجزات { وأنزلنا معهم الكتاب } المكتوب الذي يتضمن الأحكام وما يحتاج إليه الخلق من الحلال والحرام كالتوراة والإِنجيل والقرآن { والميزان } أي وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفتين الذي يوزن به عن ابن زيد والجبائي ومقاتل بن سليمان. وقيل: معناه أنزلنا صفة الميزان { ليقوم الناس } في معاملاتهم { بالقسط } أي بالعدل والمراد وأمرنا بالعدل كقوله
{ { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } [الشورى: 17] عن قتادة ومقاتل بن حيان.
{ وأنزلنا الحديد } روي عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح" وقال أهل المعاني معنى أنزلنا الحديد أنشأناه وأحدثناه كقوله { { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [الزمر: 6] وإلى هذا ذهب مقاتل فقال: معناه بأمرنا كان الحديد وقال قطرب: معنى أنزلنا هنا هيّأنا وخلقنا من النُزُل وهو ما يهيأ للضيف أي أنعمنا بالحديد وهيأناه لكم. وقيل: أنزل مع آدم من الحديد العلاة وهي السندان والكلبتان والمطرقة عن ابن عباس { فيه بأس شديد } أي يمتنع به ويحارب به عن الزجاج والمعنى أنه يتخذ منه آلتان آلة للدفع وآلة للضرب كما قال مجاهد: فيه جنّة وسلاح { ومنافع للناس } يعني ما ينتفعون به في معاشهم مثل السكين والفأس والإِبرة وغيرها مما يتخذ من الحديد من الآلات.
وقوله { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } معطوف على قوله ليقوم الناس بالقسط أي ليعاملوا بالعدل وليعلم الله نصرة من ينصره موجودة وجهاد من جاهد مع رسوله موجوداً وقوله { بالغيب } أي بالعلم الواقع بالاستدلال والنظر من غير مشاهدة بالبصر { إن الله قوي } على الانتقام من أعدائه { عزيز } أي منيع من أن يعترض عليه في أرضه وسمائه.
النظم: وجه اتصال قوله { وما أصاب من مصيبة } الآية بما قبلها أنه سبحانه لما بيّن الثواب على الطاعات عقَّبه ببيان الأعواض على مقاساة المصائب والملمّات فقال: لا يذهب علينا عوض من أصابته مصيبة مّا فإن كانت من فعلنا نعوضه بالأضعاف من جزائنا وإن كان من فعل عبادنا فباستيفائنا ذلك منهم ثم أكّد ذلك بقوله { لكيلا تأسوا } الآية لأن المصيبة لو كانت بغير عوض في العاقبة لازداد الأسى والحزن فإن الحزن كل الحزن في الخسران الذي ليس له جبران ثم عقب ذلك بقوله { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } الآية فبيَّن أنه سبحانه لطف لعباده بما يدعو إلى الخشوع والخضوع وترك الخيلاء.