التفاسير

< >
عرض

آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
٧
وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٩
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٠
-الحديد

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو عمرو وحده { وقد أخذ } بضم الهمزة { ميثاقكم } بالرفع والباقون أخذ بفتح الهمزة ميثاقكم بالنصب وقرأ ابن عامر { وكلّ وعد الله الحسنى } بالرفع والباقون كلاّ بالنصب.
الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ وقد أُخذ أنه قد تقدم { وما لكم لا تؤمنون بالله } والضمير يعود إلى اسم الله تعالى وحجة من قرأ وقد أخذ أنه على هذا المعنى وأنه قد عرف أخذ الميثاق وأن الله قد أخذه وحجة النصب في كلا وعد الله الحسنى بيّن لأنه بمنزلة زيداً وعدت خيراً وحجة ابن عامر أن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله لم يقو عمله في قوّته إذا تأخر ألا ترى أنهم قالوا في الشعر زيد ضربت ولو تأخر المفعول فوقع بعد الفاعل لم يجز ذلك فيه ومما جاء من ذلك في الشعر قوله:

قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيارِ تَدَّعي عَلَــيَّ ذَنْبــــاً كُلُّهُ لَـمْ أَصْنَعِ

فرووه بالرفع لتقدمه على الفعل وإن لم يكن شيء يمنع من تسلط الفعل عليه فكذلك قوله { وكلا وعد الله الحسنى } [الحديد: 10] يكون على إرادة الهاء وحذفها كما يحذف من الصفات والصلات.
المعنى: ثم خاطب سبحانه المكلفين فقال { آمنوا بالله } معاشر العقلاء أي صدّقوا الله وأقرّوا بوحدانيته وإخلاص العبادة له { ورسوله } أي وصدقوا رسوله واعترفوا بنبوته { وأنفقوا } في طاعة الله والوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها { مما جعلكم مستخلفين فيه } أي من المال الذي استخلفكم الله فيه بوراثتكم إياه عمن قبلكم عن الحسن ونبَّه سبحانه بهذا على أن ما في أيدينا يصير لغيرنا كما صار إلينا ممن قبلنا وحثّنا على استيفاء الحظ منه قبل أن يصير لغيرنا.
ثم بين سبحانه ما يكافيهم على ذلك إذا فعلوه فقال { فالذين آمنوا منكم } بالله ورسوله { وأنفقوا } في سبيله { لهم أجر كبير } أي جزاء وثواب عظيم دائم لا يشوبه كدر ولا تنغيص.
ثم وبّخهم سبحانه فقال { وما لكم لا تؤمنون بالله } أي وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان بالله مع وضوح الدلائل على وحدانيته { والرسول يدعوكم } إلى ما ركب الله في عقولكم من معرفة الصانع وصفاته { لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم } بما أودع الله في قلوبكم من دلالات العقل الموصلة إلى الإيمان به فإن الميثاق هو الأمر المؤكد الذي يجب العمل به { إن كنتم مؤمنين } أي إن كنتم مصدقين بحق فالآن فقد ظهرت أعلامه ووضحت براهينه والمعنى أي عذر لكم في ترك الإيمان وقد أزاحت العلل وارتفعت الشبه ولزمتكم الحجج العقلية والسمعية فالعقلية ما في فطرة العقول والسمعية دعوة الرسول المؤيدة بالأدلة المؤدية إلى المدلول.
والذي يبيّن هذا قوله: { هو الذي ينزل على عبده } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { آيات بينات } أي حججاً منيرة وبراهين واضحة { ليخرجكم الله } بالقرآن والأدلة. وقيل: ليخرجكم الرسول بالدعوة. وقيل: ليخرجكم المنزل والأول أوجه { من الظلمات إلى النور } أي من الكفر إلى الإيمان بالتوفيق والهداية والألطاف والأدلة { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } حين بعث الرسول ونصب الأدلة والرأفة والرحمة واحد وإنما جمع بينهما للتأكيد. وقيل: الرأفة النعمة على المضرور والرحمة النعمة على المحتاج وفي هذا دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر فإنه بيّن أن الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.
ثم حثهم سبحانه على الإنفاق فقال { وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله } أي أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرّب إلى الله تعالى { ولله ميراث السماوات والأرض } يعني يفني الخلق ويبقى هو المعنى فيه أن الدنيا وأموالها ترجع إلى الله فلا يبقى لأحد فيها ملك ولا أمر كما يرجع الميراث إلى مستحقِّيه فاستوفوا حظكم من أموالكم قبل أن تخرج من أيديكم.
ثم بيَّن سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } بيَّن سبحانه أن الإنفاق قبل فتح مكة إذا انضم إليه الجهاد أكثر ثواباً عند الله من النفقة والجهاد بعد ذلك وذلك أن القتال قبل الفتح كان أشد والحاجة إلى النفقة وإلى الجهاد كان أكثر وأمسّ وفي الكلام حذف تقديره لا يستوي هؤلاء مع الذين أنفقوا بعد الفتح فحذف لدلالة الكلام عليه وقال الشعبي: أراد فتح الحديبية.
ثم سوّى سبحانه بين الجميع في الوعد بالخير والثواب في الجنة فقال { وكلاًّ وعد الله الحسنى } أي الجنة والثواب فيها وإن تفاضلوا في مقادير ذلك { والله بما تعملون خبير } أي لا يخفى عليه شيء من إنفاقكم وجهادكم فيجازيكم بحسب نياتكم وبصائركم وإخلاصكم في سرائركم.