التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢
ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٣
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٤
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٥
-المجادلة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ عاصم وحده { في المجالس } على الجمع والباقون في المجلس على التوحيد وقرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم غير يحيى مختلف عنه قيل { انشزوا فانشزوا } بالضم والباقون بالكسر.
الحجة: قال أبو علي: في المجلس زعموا أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك فالوجه الإفراد ويجوز أن يجمع على هذا على أن يجعل لكل جالس مجلس أي موضع جلوس ويكون المجلس على إرادة العموم مثل قولهم كثر الدينار والدرهم فيشتمل على هذا جميع المجالس ومثله قوله
{ { إن الإنسان لفي خسر } [العصر: 2] وقوله { انشزوا } أي قوموا والنشز المرتفع من الأرض قال:

تَـرَى الثَّعْلَبَ الحَوْلِيَّ فيها كَأَنَّهُ إِذا ما عَلا نَشْز أحِصانٌ مُجَلَّلُ

ومنه نشوز المرأة على زوجها وينشُز وينشِز مثل يعكف ويعكف ويعرش ويعرش.
اللغة: التفسح الاتساع في المكان والتفسح والتوسّع واحد وفسح له في المجلس يفسح فسحاً ومكان فسيح وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم كان فسيح ما بين المنكبين أي بعيد ما بينهما لسعة صلبه والإشفاق الخوف ورقة القلب والنشوز الارتفاع عن الشيء بالذهاب عنه.
النزول: قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض وقال المقاتلان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: "قم يا فلان قم يا فلان" بقدر النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف الكراهية في وجوههم وقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس فوالله ما عدل على هؤلاء إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم فنزلت الآية.
وأما قوله { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا } الآية فإنها نزلت في الأغنياء وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته فأمر الله سبحانه بالصدقة عند المناجاة فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته فنزلت آية الرخصة عن مقاتل بن حيان وقال أمير المؤمنين صلوات الرحمن عليه: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول } الآية كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت درهماً فنسختها الآية الأخرى { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } الآية فقال صلوات الله عليه بي خفف الله عن هذه الأمة ولم ينزل في أحد قبلي ولم ينزل في أحد بعدي.
وقال ابن عمر: وكان لعلي بن أبي طالب (ع) ثلاث لو كانت لي واحدة منهن لكانت أحب إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى وقال مجاهد وقتادة: لما نهوا عن مناجاته صلوات الرحمن عليه حتى يتصدقوا لم يناجه إلا علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات قدم ديناراً فتصدق به ثم نزلت الرخصة.
المعنى: لما قدم سبحانه النهي عن النجوى لما فيه من إيذاء المؤمنين عقبه بالأمر بالتفسح لما في تركه من إيذائهم أيضاً فقال { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } أي اتسعوا فيه وهو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم عن قتادة ومجاهد. وقيل: المراد به مجالس الذكر كلها { فافسحوا يفسح الله لكم } أي فتوسعوا يوسع الله لكم مجالسكم في الجنة { وإذا قيل انشزوا } أي ارتفعوا وقوموا ووسعوا على إخوانكم { فانشزوا } أي فافعلوا ذلك. وقيل: معناه وإذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير فانشزوا ولا تقصروا عن مجاهد.
وقيل: معناه وإذا قيل لكم ارتفعوا في المجلس وتوسعوا للداخل فافعلوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرّب ولا يرفع إلا بإذن الله وأمره. وقيل: معناه وإذا نودي للصلاة فانهضوا فإن رجالاً كانوا يتثاقلون عن الصلاة عن عكرمة والضحاك. وقيل: وردت في قوم كانوا يطيلون المكث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون كل واحد منهم يحب أن يكون آخر خارج فأمرهم الله أن ينشزوا أي يقوموا إذا قيل لهم انشزوا.
{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } قال ابن عباس: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات. وقيل: معناه لكي يرفع الله الذين آمنوا منكم بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم درجة والذين أوتوا العلم بفضل علمهم وسابقتهم درجات في الجنة. وقيل: درجات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله سبحانه أن يقرّب العلماء من نفسه فوق المؤمنين الذين لا يعلمون العلم ليبين فضل العلماء على غيرهم وفي هذه الآية دلالة على فضل العلماء وجلالة قدرهم وقد ورد أيضاً في الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم:
"فضل العالم على الشهيد درجة وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل النبي على العالم درجة وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم" رواه جابر بن عبد الله.
وقال علي (ع): من جاءته منيته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة { والله بما تعملون خبير } أي عليم.
ثم خاطب سبحانه المؤمنين مرة أخرى وقال { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة } أي إذا ساررتم الرسول فقدموا قبل أن تسارّوه صدقة وأراد بذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون ذلك سبباً لأن يتصدقوا فيؤجروا عنه وتخفيفاً عنه صلى الله عليه وسلم قال المفسرون: فلما نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا ضن كثير من الناس فكفوا عن المسألة فلم يناج أحد إلا علي بن أبي طالب على ما مضى ذكره قال مجاهد: وما كان إلا ساعة وقال مقاتل بن حيان: كان ذلك ليالي عشراً ثم نسخت بما بعدها وكانت الصدقة مفوضة إليهم غير مقدرة.
{ ذلك } أي ذلك التصدق بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم { خير لكم } لأن فيه أداء واجب وتحصيل ثواب { وأطهر } أي وأدعى لكم إلى مجانبة المعاصي وتركها وأزكى لكم تتطهرون بذلك بمناجاته كما تقدم الطهارة على الصلاة { فإن لم تجدوا } ما تتصدقون به { فإن الله غفور } يستر عليكم ترك ذلك { رحيم } يرحمكم وينعم عليكم.
ثم قال سبحانه ناسخاً لهذا الحكم { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } يعني أخفتم الفاقة يا أهل الميسرة وبخلتم بالصدقة بين يدي نجواكم وهذا توبيخ لهم على ترك الصدقة إشفاقاً من العيلة { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } لتقصيركم فيه { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله } فيما أمركم به ونهاكم عنه { ورسوله } أي وأطيعوا رسوله أيضاً { والله خبير بما تعملون } أي عالم بأعمالكم من طاعة ومعصية وحسن وقبيح فيجازيكم بها.
ثم قال سبحانه { ألم تر } يا محمد { إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } والمراد به قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود ويفشون إليهم أسرار المؤمنين ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن قتادة وابن زيد { ما هم منكم ولا منهم } يعني أنهم ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية ولا من اليهود { ويحلفون على الكذب } أي ويحلفون أنهم لم ينافقوا { وهم يعلمون } أنهم منافقون { أعد الله لهم عذاباً شديداً } أي في الآخرة { أنهم ساء ما كانوا يعملون } أي بئس العمل عملهم وهر النفاق وموالاة أعداء الله.