التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
١٢٨
وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٢٩
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حفص وروح ويوم يحشرهم بالياء والباقون بالنون.
الحجة: من قرأ بالياء فلقولـه عند ربهم والنون كالياء في المعنى ويقوي النون قولـه:
{ ونحشره يوم القيامة أعمى } [طه: 124].
الإعراب: قال الزجاج: خالدين فيها منصوب على الحال والمعنى النار مقامكم في حال خلود دائم قال أبو علي: المثوى عندي في الآية اسم للمصدر دون المكان لحصول الحال في الكلام معملاً فيها ألا ترى أنه لا يخلو من أن يكون موضعاً أو مصدراً فلا يجوز أن يكون موضعاً لأن اسم الموضع لا يعمل عمل الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه وإذا لم يكن موضعاً ثبت أنه مصدر والمعنى النار ذات أقامتكم فيها خالدين أي أهل أن تقيموا أو تثووا خالدين فيها فالكاف والميم في المعنى فاعلون وإن كان في اللفظ خفض بالإضافة.
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال: { ويوم يحشرهم جميعاً } أي يجمعهم يريد جميع الخلق. وقيل: الإنس والجن لأنه يتعقبه حديثهم. وقيل: يريد الكفار وانتصب اليوم بالقول المضمر لأن المعنى ويوم يحشرهم جميعاً يقول: { يا معشر الجن } أي يا جماعة الجن { قد استكثرتم من الإنس } أي قد استكثرتم ممن أضللتموه من الإنس عن الزجاج وهو مأخوذ من قول ابن عباس معناه من إغواء الإنس وإضلالهم { وقال أولياؤهم } أي متّبعوهم { من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع بعضنا ببعض وقد قيل فيه أقوال:
أحدها: أن استمتاع الجن بالإنس أن اتخذهم الإنس قادة ورؤساء فاتبعوا أهواءهم واستمتاع الإنس بالجن انتفاعهم في الدنيا بما زَيَّن لهم الجن من اللذات ودعوهم إليه من الشهوات.
وثانيها: أن استمتاع الإنس بالجن أن الرجل كان إذا سافر وخاف الجن في سلوك طريق قال أعوذ بسيد هذا الوادي ثم يسلك فلا يخاف وكانوا يرون ذلك استجارة بالجن وإن الجن تجيرهم كما قال الله تعالى
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } [الجن: 6] واستمتاع الجن بالإنس أن الجن إذا اعتقدوا أن الإنس يتعوذون بهم ويعتقدون أنهم ينفعونهم ويضرونهم كان في ذلك لهم سرور ونفع عن الحسن وابن جريج والزجاج وغيرهم.
وثالثها: أن المراد بالاستمتاع طاعة بعضهم لبعض وموافقة بعضهم بعضاً عن محمد بن كعب قال البلخي: ويحتمل أن يكون الاستمتاع مقصوراً عن الإنس فيكون الإنس استمتع بعضهم ببعض دون الجن.
وقولـه: { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني بالأجل الموت عن الحسن والسدي. وقيل: البعث والحشر لأن الحشر أجل الجزاء كما أن الموت أجل استدراك ما مضى قال الجبائي: وفي هذا دلالة على أنه لا أجل إلا واحد لأنه لو كان أجلان لكان الرجل إذا اقتطع دون الموت بأن يقتل لم يكن بلغ أجله والآية تتضمن أنهم أجمع قالوا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وقال علي بن عيسى: وغيره من البغداديين لا دلالة في الآية على ذلك بل لا يمتنع أن يكون للإنسان أجلان أحدهما: ما يقع فيه الموت والآخر: ما يقع فيه الحشر أو ما كان يجوز أن يعيش إليه.
{ قال } الله تعالى لهم: { النار مثواكم } أي مقامكم والثواء الإقامة { خالدين فيها } أي دائمين مؤبدين فيها معذبين { إلا ما شاء الله }. وقيل: في معنى هذا الاستثناء أقوال أحدها: ما روي عن ابن عباس أنه قال كان وعيد الكفار مبهماً غير مقطوع به ثم قطع به لقولـه تعالى:
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } } [النساء: 48 و 116] وثانيها: أن الاستثناء إنما هو من القيامة لأن قولـه: { ويوم يحشرهم جميعاً } [الأنعام: 128] هو يوم القيامة فقال خالدين فيها مذ يوم يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم عن الزجاج قال وجائز أن يكون المراد إلا ما شاء الله أن يعذبهم به من أضعاف العذاب وثالثها: أن الاستثناء راجع إلى غير الكفار من عصاة المسلمين الذين هم في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبهم بذنوبهم بقدر استحقاقهم عدلاً وإن شاء عفا عنهم فضلاً ورابعها: أن معناه إلا ما شاء الله ممن آمن منهم عن عطاء.
{ إن ربك حكيم عليم } أي محكم لأفعاله عليم بكل شيء. وقيل: حكيم في عقاب من يختار أن يعاقبه والعفو عمن يختار أن يعفو عنه عليم بمن يستحق الثواب وبمقدار ما يستحقه وبمن يستحق العقاب وبمقدار ما يستحقه.
{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون } الكاف للتشبيه أي كذلك المَهْل بتخلية بعضهم عن بعض للامتحان الذي معه يصح الجزاء على الأعمال توليتنا بعض الظالمين بعضاً بأن نجعل بعضهم يتولى أمر بعض للعقاب الذي يجري على الاستحقاق عن علي بن عيسى. وقيل: معناه أنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن والإنس بعضهم إلى بعض يوم القيامة وتبرأنا منهم فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض يوم القيامة ونكل الأتباع إلى المتبوعين ونقول للأتباع قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب عن أبي علي الجبائي قال والغرض بذلك إعلامهم أنه ليس لهم يوم القيامة ولي يدفع عنهم شيئاً من العذاب.
وقال غيره لما حكى الله تعالى ما يجري بين الجن والإنس من الخصام والجدال في الآخرة قال وكذلك أي وكما فعلنا بهؤلاء من الجمع بينهم في النار وتولية بعضهم بعضاً نفعل مثله بالظالمين جزاء على أعمالهم وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا سخط على قوم ولي أمرهم شرارهم بما كانوا يكسبون من المعاصي أي جزاء على أعمالهم القبيحة وذلك معنى قولـه
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد: 11] ومثله ما رواه الكلبي عن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض كتب الحكمة أن الله تعالى يقول: إني أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم. وقيل: معنى قولـه نولي بعضهْم بعضاً نخلي بينهم وبين ما يختارونه من غير نصرة لهم. وقيل: معناه نتابع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة التي هي المتابعة أي يدخل بعضهم النار عقيب بعض عن قتادة.