التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
١٥٤
وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٥٥
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة يحيى بن يعمر على الذي أحسنُ بالرفع.
الحجة: قال ابن جني: هذا مستضعف الإِعراب عندنا لأَنه حذف المبتدأ العائد إلى الذي لأَن تقديره على الذي هو أحسن وإنما يحذف من صلة الذي الهاء المنصوبة بالفعل الذي هو صلتها نحو مررت بالذي ضربت أي ضربته ومن المفعول بُدٌّ له وطال الاسم بصلته فحذف الهاء لذلك وليس المبتدأ بنيف ولا فضلة فيحذف تخفيفاً لا سيما وهو عائد الموصول وعلى أن هذا قد جاء نحوه عنهم.
حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع ما أنا بالذي قائل لك شيئاً وسوءاً أي بالذي هو قائل لك وقال لم ارَ مِثْلَ الْفتيانِ في غَيرِ الأَيّامِ يَنْسونَ ما عَواقِبها أي ينسون الذي هو عواقبها ويجوز أن يكون ينسون معلقة كما علقوا نقيضتها التي هي يعلمون فيكون ما استفهاماً وعواقبها خبر ما كقولك قد علمت من أبوك وعلى الوجه الأول حمله أصحابنا وقال الزجاج: تماماً منصوب بأنه مفعول له وكذلك تفصيلاً وما بعده والمعنى آتيناه لهذه العلة أي للتمام وللتفصيل أنزلناه في موضع رفع بأنه صفة كتاب.
المعنى { ثم آتينا موسى الكتاب } قيل في معنى ثم آتينا موسى الكتاب مع أن كتاب موسى قبل القرآن وثم يقتضي التراخي وجوه أحدها: أن فيه حذفاً وتقديره ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب بدلالة قولـه تعالوا وثانيها: أن تقديره ثم أتل عليكم آتينا موسى الكتاب ويكون عطفاً على معنى التلاوة والمعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسى عن الزجاج وثالثها: أنه عطف خبر على خبر لا عطف معنى وتقديره ثم أخبركم أنه أعطى موسى الكتاب والذي يؤيده قول الشاعر:

وَلَقَدْ سادَ ثُمَّ سادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سادَ قَبْلَ ذلِكَ جَدُّه

ورابعها: أنه يتصل بقولـه في قصة إبراهيم { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } [الأنعام: 84] فعد سبحانه نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأَنبياء ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما أُتي موسى من الكتاب والنبوة وهو أيضاً من ذريته عن أبي مسلم واستحسنه المغربي.
{ تماماً على الذي أحسن } قيل فيه وجوه أحدها: تماماً على إحسان موسى فكأنه قال ليكمل إحسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الآخرة عن الربيع والفراء وثانيها: تماماً على المحسنين عن مجاهد. وقيل: إن في قراءة عبد الله تماماً على الذي أحسنوا فكأنه قال تماماً للنعمة على المحسنين الذين هو أحدهم والنون قد تحذف من الذين كما في البيت:

وَإنّ الَّذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُم هُمُ الْقَوْمِ كلُّ القومِ يا أُمَّ خالِدِ

ويجوز أن يكون الذي للجنس ويكون بمعنى من أحسن وثالثها: أن معناه تماما ًعلى إحسان الله إلى أنبيائه عن ابن زيد ورابعها: أن معناه تماماً لكرامته في الجنة على أحسانه في الدنيا عن الحسن وقتادة: وقال قتادة تقديره من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامة الله في الآخرة وخامسها: أن معناه تماماً على الذي أحسن الله سبحانه إلى موسى بالنبوة وغيرها من الكرامة عن الجبائي وسادسها: ما قاله أبو مسلم أنه يتصل بقصة إبراهيم فيكون المعنى تماماً للنعمة على إبراهيم ولجزائه على إحسانه في طاعة ربه وذلك من لسان الصدق الذي سأل الله سبحانه أن يجعله له ولفظة على تقتضي المضاعفة عليه ولو قال تماماً ولم يأت بقولـه على الذي أحسن لدل على نقصانه قبل تكميله.
{ وتفصيلاً لكل شيء } أي وبياناً لكل ما يحتاج إليه الخلق { وهدى } أي ودلالة على الحق والدين يهتدي بها إلى التوحيد والعدل والشرائع { ورحمة } أي نعمة على سائر المكلفين لما فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والأَحكام.
{ لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } معناه لكي يؤمنوا بجزاء ربهم فسمي الجزاء لقاء الله تفخيماً لشأنه مع ما فيه من الإِيجاز والاختصار. وقيل: معنى اللقاء الرجوع إلى ملكه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئاً.
{ وهذا كتاب } يعني القرآن وصفه بهذا الوصف لبيان أنه مما ينبغي أن يكتب لأنه أجل الحكم { أنزلناه } يعني أنزله جبرائيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأضاف النزول إلى نفسه توسعاً { مبارك } وهو من يأتي من قبله الخير الكثير عن الزجاج فالبركة ثبوت الخير بزيادته ونموه وأصله الثبوت ومنه براكاء القتال في قولـه:

وَما يُنْجِي مِنَ الْغَمَراتِ إلاّ بَراكــاءُ الْقِتالِ أوِ الْفَرارُ

ومنه تبارك الله أي تعالى بصفة إثبات لا أول له ولا آخر وهذا لا يستحقه غير الله تعالى { فاتبعوه } أي اعتقدوا صحته واعملوا به وكونوا من أتباعه { واتقوا } معاصي الله ومخالفته ومخالفة كتابه { لعلكم ترحمون } أي لكي ترحموا وإنما قال واتقوا لعلكم ترحمون مع أنهم إذا اتقوا رحموا لا محالة لأَمرين أحدهما: أنه اتقوا على رجاء الرحمة لأَنكم لا تدرون بما توافون في الآخرة والثاني: اتقوا لترحموا أي ليكن الغرض بالتقوى منكم طلب ما عند الله من الرحمة والثواب.