التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
٢٣
ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٤
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وخلف ثم لم تكن بالتاء فتنتهم بالنصب وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ثم لم تكن بالتاء أيضاً فتنتهم بالرفع وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب وقرأ حمزة والكسائي وخلف والله ربَنا بالنصب وقرأ الباقون بالجرّ.
الحجة: من قرأ تكن بالتاء فتنتهم بالنصب فإنه أنَّث إن قالوا لما كان القول الفتنة في المعنى كما قال
{ فله عشر أمثالها } [الأنعام: 160] فأنَّث الأمثال لما كانت في المعنى الحسنات ومما جاء في الشعر قول لبيد:

فَمَضى وَقَدَّمَها وَكَانَتْ عادَةً مِنْهُ إذا هِيَ عَرَّدَتْ أقْدامُها

فأنَّث الاقدام لما كانت العادة في المعنى قال الزجاج: ويجوز أن يكون تأويل إلا أن قالوا إلا مقالتهم ومن قرأ لم تكن بالتاء فتنتهم رفعاً أثبت علامة التأنيث في الفعل المسند إلى الفتنة والفتنة مؤنثة وعلى هذه القراءة يكون قولـه إلاّ أن قالوا في موضع نصب بكونه خبر كان ومن قرأ لم يكن بالياء فتنتهم نصباً فعلى أن قولـه أن قالوا اسم كان والأولى والأقوى أن يكون فتنتهم نصباً وإن قالوا الاسم لأنّ أن إذا وصلت لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان أن يكون المضمرُ الاسمَ أحسن، فكذلك أنْ إذا كانت مع اسم غيرها كانت، أن يكون الاسم أولى وأما من قرأ والله ربنا فإنه جعل الاسم المضاف وصفاً للمفرد ومثل ذلك رأيت زيداً صاحبنا وقولـه ما كنا مشركين جواب للقسم ومن قرأ ربنا بالنصب فصَّل بالاسم المنادى بين القسم والمقسم عليه والفصل به لا يمتنع وقد فصل بالنداء بين الصلة والموصول لكثرة النداء في الكلام وذلك مثل قول الشاعر:

ذاكَ الَّذِي وَأبِيكَ يُعْرَفُ مالِكٌ وَالْحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهاتِ الْباطِلِ

ويجوز أن يكون نصبه على المدح بمعنى أعني ربنا واذكر ربنا.
اللغة: قال الأزهري: جماع الفتنة في كلام العرب الامتحان مأخوذ من قولك فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار وأحرقتهما وقد فتن الرجل بالمرأة وافتتن وقد فتنته المرأة وافتنته قال الشاعر:

لِئَنْ فَتَنَتْنِي لَهْيَ بِالأمْسِ أفْتَنَتْ عَقِيلاً فأمْسى قَدْ قَلى كُلَّ مُسْلِمِ

الإعراب: العامل في كيف قولـه كَذَبوا ولا يجوز أن يعمل فيه أنظر لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يجوز أن يعمل فيه ما قبله.
المعنى: ثُمَّ بيَّن سبحانه جوأب القوم عند توجه التوبيخ إليهم فقال { ثم لم تكن فتنتهم } اختلف في معنى الفتنة هنا على وجوه:
أحدها: أن معناها ثم لم يكن جوابهم لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلاّ هذا القول.
وثانيها: أن المراد لم يكن معذرتهم { إلا أن قالوا } عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) وهذا راجع إلى معنى الجواب أيضاً.
وثالثها: ما قاله الزجاج: أن تأويله حسن لطيف لا يعرفه إلاّ من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك والله عز وجل ذكر في هذه الآية الأقاصيص التي جرت من أمر المشركين وأنهم مفتتنون بشركهم ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرأوا منه وانتفوا منه فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين ومثل ذلك في اللغة أن ترى إنساناً يحب غاوياً فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول له ما كانت محبتك فلاناً إلا أن افتتنت منه فالفتنة ها هنا بمعنى الشرك والافتتان بالأوثان.
ويؤيد ذلك ما رواه عطاء عن ابن عباس قال فتنتهم يريد شركهم في الدنيا وهذا القول في التأويل يرجع إلى حذف المضاف لأن المعنى لم يكن عاقبة فتنتهم إلاّ البراءة منها بقولـهم { والله ربنا ما كنا مشركين } ويسأل فيقال كيف يجوز أن يكذبوا في الآخرة ويحلفوا على الكذب والدار ليست بدار تكليف وكل الناس ملجؤون فيها إلى ترك القبيح لمشاهدة الحقائق وزوال عوارض الشبه والشكوك ولمعرفتهم بالله سبحانه ضرورة والجواب أن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا وفي اعتقادنا وتقديرنا وذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين فيحلفون على هذا في الآخرة فعلى هذا يكون قولـهم وحلفهم يقعان على وجه الصدق. وقيل أيضاً: إنهم إنما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال القيامة ثم ترجع عقولـهم فيقرون ويعترفون ويجوز أن ينسوا إشراكهم في الدنيا بما يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال.
{ انظر } المعنى يقول الله تعالى عند حلف هؤلاء انظر يا محمد { كيف كذبوا على أنفسهم } وهذا وإن كان لفظه لفظ الاستفهام فالمراد به التنبيه على التعجيب منهم ومعناه أنظر إلى أخباري عن افترائهم كيف هو فإنه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخرة وإنما كذبهم الله سبحانه في قولـهم وإن كانوا صادقين عند أنفسهم لأن الكذب هو الإخبار بالشيء لا على ما هو به علم المخبر بذلك أو لم يعلم فلما كان قولـهم ما كنا مشركين كذباً في الحقيقة جاز أن يقال كذبوا على أنفسهم. وقيل: معناه أنظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا لا أنهم كذبوا في الآخرة لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة وإن اعتقدوا أنهم على الحق عن الجبائي.
{ وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون } أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويفترون الكذب بقولـهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله غداً فذهبت عنهم في الآخرة فلم يحدوها ولم ينتفعوا بها عن الحسن. وقيل: أنه عام في كل ما يعبد من دون الله تعالى أنها تضل عن عابديها يوم القيامة ولا تغني عنهم شيئاً واختلف أهل العدل في أن أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب فالأصح أنه لا يجوز على ما قلناه وقال بعضهم يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهشة والحيرة في القيامة فإذا استقرَّ أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فحينئذ لا يجوز أن يقع منهم القبيح والكذب ويكون جميعهم ملجئين إلى ترك القبيح وبه قال أبو بكر بن الإخشيد: وأصحابه وقال بعضهم أنه يجوز وقوعه منهم على جميع الأحوال.