التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢٧
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
٢٨
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ولا نكذب ونكون بالنصب حفص عن عاصم وحمزة ويعقوب وقرأ ابن عامر ونكون بالنصب وقرأ الباقوت بالرفع فيهنَّ.
الحجة: قال أبو علي: من قرأ بالرفع جاز فيه وجهان أحدهما: أن يكون معطوفاً على نردّ فيكون قولـه ولا نكذب ونكون داخلاً في التمني دخول نردّ فيه فعلى هذا تمنى الردّ وأن لا نكذب والكون من المؤمنين ويحتمل الرفع وجهاً آخر وهو أن تقطعه من الأول ويكون التقدير يا ليتنا نردّ ونحن لا نكذب ونكون وقال سيبويه هو على قولك فإنا لا نكذب كما يقول القائل دعني ولا أعود أي فإني ممن لا يعود فإنما يسألك الترك وقد أوجب على نفسه أن لا يعود ترك أو لم يترك ولم يرد أن يسألك أن تجمع له الترك وأن لا يعود.
وحجة من نصب فقال ولا نكذب ونكون أنه أدخل ذلك في التمني غير موجب لأن التمني غير موجب فهو كالاستفهام والأمر والنهي في انتصاب ما بعد ذلك كله من الأفعال إذا دخلت عليها الفاء أو الواو على تقدير ذكر المصدر من الفعل الأول كأنه في التمثيل يا ليتنا يكون لنا ردّ وانتفاء التكذيب والكون من المؤمنين ومن رفع ولا نكذب ونصب ونكون فإن الفعل الذي هو لا نكذب يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون داخلاً في التمني فيكون في المعنى كالنصب والآخر: أن يخبر على البتات أن لا نكذب ردّ أو لم يردّ ومن نصبها جميعاً جعلهما داخلين في التمني.
اللغة: يقال وقفت الدابة وقوفاً ووقف غيره يقفه وقفاً وحكي عن أبي عمرو أنه أجاز ما أوقفك ها هنا مع إخباره أنه لم يسمعه من العرب وبدا يبدو وبدوا إذا ظهر وفلان ذو بدوات إذا بدا له الرأي بعد الرأي وبدا لي في هذا الأمر بداء والبداء لا يجوز على الله سبحانه لأنه العالم بجميع المعلومات لم يزل ولا يزال.
الإعراب: ولو ترى جوابه محذوف وتقديره لرأيت أمراً هائلاً ونحوه قولـه تعالى:
{ ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال } [الرعد: 31] يريد اسكان هذا القرآن وهذه الأجوبة إنما تحذف لتعظيم الأمر وتفخيمه ومثله قول امرىء القيس:

وَجِئْتُكَ لَوْ شَيءٌ أتَانَا رَسُولُهُ سَواكَ ولكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا

وتقديره لو أتانا رسول غيرك لما جئنا ويسأل فيقال لم جاز ولو ترى إذ وقفوا وإذ هي للماضي والجواب أن الخبر لصحته وصدق المخبر به صار بمنزلة ما وقع.
المعنى: ثُمَّ بيَّن سبحانه ما ينال هؤلاء الكفار يوم القيامة من الحسرة وتمني الرجعة فقال { ولو ترى } يا محمد أو يا أيها السامع { إذ وقفوا على النار } فهذا يحتمل ثلاثة أوجه جائز أن يكون المعنى عاينوا النار وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم قال الزجاج: والأجود أن يكون معناه ادخلوها فعرفوا مقدار عذابها كما تقول في الكلام قد وقفت على ما عند فلان تريد قد فهمته وتبينته وهذا وإن كان بلفظ الماضي فالمراد به الاستقبال وإنما جاز ذلك لأن كل ما هو كائن يوماً مما لم يكن بعد فهو عند الله قد كان وأنشد في مثله:

سَتَنْدِمُ إذْ يَأتي عَلَيْكَ رَعِيلُنا بِأرعَنَ جَرّارٍ كَثِيرٍ صَواهِلُه

فوضع إذ موضع إذا وقد يوضع أيضاً إذا موضع إذ كما قال الشاعر:

وَنَدْمان يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيباً سَقَيْتُ إذَا تَعَرَّضَتِ النُّجُومُ

{ فقالوا } أي فقال الكفار حين عاينوا العذاب وندموا على ما فعلوا { يا ليتنا نردّ } إلى الدنيا { ولا نكذب بآيات ربنا } أي بكتب ربنا ورسله وجميع ما جاءنا من عنده { ونكون من المؤمنين } يعني من جملة المؤمنين بآيات الله.
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } اختلف فيه على أقوال أحدها: أن معناه بل بدا لبعضهم من بعض ما كان علماؤهم يخفونه عن جهالهم وضعفائهم مما في كتبهم فبدا للضعفاء عنادهم وثانيها: أن المراد بل بدا من أعمالهم ما كانوا يخفونه فأظهره الله وشهدت به جوارحهم عن أبي روق وثالثها: أن المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفونه عنهم من أمر البعث والنشور لأن المتصل بهذا ولـه
{ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } [الأنعام: 29] الآية عن الزجاج وهو قول الحسن ورابعها: أن المراد بل بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر عن المبرد وكل هذه الأقوال بمعنى ظهرت فضيحتهم في الآخرة وتهتكت استارهم.
{ ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه } أي لو ردّوا إلى الدنيا وإلى حال التكليف كما طلبوه لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب { وإنهم لكاذبون } ويسأل على هذا فيقال إن التمني كيف يصح فيه الكذب وإنما يقع الكذب في الخبر والجواب أنّ من الناس من حمل الكلام كله على وجه التمني وصرف الكذب إلى غير الأمر الذي تمنوه وقال إن معناه هم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإصابة واعتقاد الحق أو يكون المعنى إنهم كاذبون أن خبروا عن أنفسهم بأنهم متى ردّوا آمنوا وإن كان ما حكي عنهم من التمني ليس بخبر وقد يجوز أن يحمل على غير الكذب الحقيقي بأن يكون المراد أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب أملهم وتمنيهم وهذا مشهور في كلام العرب يقولون كذبك أملك لمن تمنى ما لم يدرك وقال الشاعر:

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ لا تَنْكِحُونَها بَني شابَ قَرْناها تَصُرُّ وتَحْلُبُ

وقال آخر:

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ لا تَأْخُذُونَها مُراغَمَةً ما دامَ لِلسَّيفِ قائِمُ

والمراد ما ذكرناه من الخيبة في الأمل والتمني فإن قيل كيف يجوز أن يتمنوا الردّ إلى الدنيا وقد علموا أنهم لا يردّون فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنا لا نعلم أن أهل الآخرة يعرفون جميع أحكام الآخرة وإنما نقول إنهم يعرفون الله معرفة لا يتخالجهم فيها الشك لما يشاهدونه من الآيات الملجئة لهم إلى المعارف وأما التوجع والتمني للخلاص والدعاء للفرج فيجوز أن يقع منهم ذلك عن البلخي.
وثانيها: أن التمني قد يجوز فيما يعلم أنه لا يكون ولهذا قد يقع التمني على أن لا يكون ما قد كان وأن لا يكون فعل ما قد فعله وتقضى وقته.
وثالثها: إنه لا مانع من أن يقع منهم التمني للردّ ولأن يكونوا من المؤمنين عن الزجاج.
وفي الناس من جعل بعض الكلام تمنياً وبعضه اخباراً وعلّق تكذيبهم بالخبر دون ليتنا وهذا إنما ينساق في قراءة من رفع ولا نكذب ونكون على معنى فإنا لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فيكونون قد أخبروا بما علم الله أنهم فيه كاذبون وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك فلهذا كذبهم وذكر أن أبا عمرو بن العلاء استدل على قراءته بالرفع في الجميع بأن قولـه وإنهم لكاذبون فيه دلالة على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم ولن يتمنوه لأن التمني لا يقع فيه الكذب.