التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
٢
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٤
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٥
-الممتحنة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو { يفصل بينكم } بضم الياء وفتح الصاد على التخفيف وقرأ أهل الكوفة غير عاصم { يفصل } بضم الياء وكسر الصاد مشدداً وقرأ عاصم ويعقوب وسهل يفصل بفتح الياء وكسر الصاد مخففاً وقرأ ابن عامر { يفصل } بضم الياء وفتح الصاد مشدداً وفي الشواذ قراءة عيسى بن عمرو أنا براء منكم على مثال فعال.
الحجة: قال أبو علي: ذهب أبو الحسن في هذا النحو أن الظرف أقيم مقام الفاعل وترك على الفتح الذي كان يجري عليه في الكلام لجريه في أكثر الكلام منصوباً وكذلك تقول في قوله
{ { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } [الجن: 11] وكذلك يجيء قياس قوله لقد تقطع بينكم فاللفظ على قوله مفتوح والموضع رفع كما كان اللفظ في قوله وكفى بالله وما جاءني من رجل مجروراً والموضع رفع والقول في قراءة ابن عامر يفصل مثل القول في يفصل وقول عاصم يفصل حسن والضمير يرجع إلى اسم الله تعالى ودلّ عليه قوله وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم وكذلك قول من قرأ يفصل.
وبريء في تكسيره أربعة أوجه براء كالشريف والشرفاء وهو قراءة الجماعة وبراء نحو ظريف وظراف وأبرياء كصديق وأصدقاء وبراء كتؤام ورباب وعليه بيت الحارث بن حلزة:

فـإنــا مــن قتلهــم لبــراءُ

قال الفراء: أراد به براء فحذف الهمزة التي هي لام تخفيفاً وأخذ هذا الموضع من أبي الحسن في قوله أن أشياء أصله أشيئاء وهذا المذهب يوجب ترك صرف براء لأنها همزة التأنيث.
الإعراب: ذهب الزجاج إلى أن التقدير إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله أولياء ثم قال: تلقون إليهم على تقدير أتلقون فحذف الهمزة كقوله { وتلك نعمة تمنها علي } وتقديري أو تلك نعمة. وقيل: إن قوله تلقون إليهم بالمودة في موضع النصب على الحال من الضمير في لا تتخذوا والباء مزيدة والتقدير { تلقون إليهم المودة } كما قال الشاعر:

فَلَمَّا رَجَتْ بِالشُّرْبِ هَزَّ لَها الْعَصا شَحِيــحٌ لَهُ عِنْـــدَ الإزاءِ نَهِيـــمُ

أي رجت الشرب ويجوز أن يكون مفعول تلقون محذوفاً والباء تتعلق به أي تلقون إليهم ما تريدون بالمودة التي بينكم وبينهم وقد كفروا جملة في موضع نصب على الحال من العدو أو من الهاء والميم في قوله { تلقون إليهم } وإياكم منصوب بالعطف على الرسول إن كنتم خرجتم جواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدمه من الكلام عليه أي إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي فلا نتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وجهاداً مفعول له أي للجهاد ويجوز أن يكون مصدراً وضع موضع الحال وابتغاء مرضاتي معطوف عليه على الوجهين والتقدير للحال خرجتم مجاهدين في سبيلي مبتغين مرضاتي.
{ وحده } يجوز أن يكون مصدراً محذوف الزوائد والتقدير توحدونه توحيداً أو توحدونه إيحاداً فيكون مصدراً وضع موضع الحال ويجوز أن يكون مصدر فعل ثلاثي تقديره يحد وحده والتقدير حتى تؤمنوا بالله واحداً. إلا قول إبراهيم منصوب على الاستثناء والمستثنى منه الضمير المستكن فيما يتعلق به اللام في قوله { قد كانت لكم أسوة حسنة } والتقدير ثبتت لكم في إبراهيم إلا في قوله { لأستغفرن لك }
النزول: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وذلك
"أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسلمة جئت قالت: لا قال: أمهاجرة جئت قالت: لا قال: فما جاء بك قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهب مواليّ واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني قال: فأين أنت من شبان مكة وكانت مغنية نائحة قالت: ما طلب مني بعد وقعة بدر فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وكتب معها كتاباً إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير عن ابن عباس وعشرة دراهم عن مقاتل بن حيان وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم.
فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها: أين الكتاب فحلفت بالله ما معها من كتاب فنحوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع فقال علي (ع): والله ما كذبنا ولا كذبنا وسل سيفه وقال لها اخرجي الكتاب وإلا والله لأضربن عنقك فلما رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها قد أخبأته في شعرها فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأرسل إلى حاطب فأتاه فقال له: هل تعرف الكتاب قال: نعم قال: فما حملك على ما صنعت قال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عريراً فيهم أي غريباً وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره.
فقام عمر بن الخطاب وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن أبي رافع قال: سمعت علياً (ع) يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والمقداد والزبير وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخرجنا وذكر نحوه.
المعنى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } خاطب سبحانه المؤمنين ونهاهم أن يتخذوا الكافرين أولياء يوالونهم ويستنصرون بهم وينصرونهم { تلقون إليهم بالمودة } أي تلقون إليهم المودة وتبذلون لهم النصيحة يقال ألقيت إليك بسري. وقيل: معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمودة التي بينكم وبينهم عن الزجاج { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } وهو القرآن والإسلام { يخرجون الرسول وإياكم } من مكة { أن تؤمنوا بالله ربكم } أي لأن تؤمنوا أو كراهة أن تؤمنوا فكأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم بالله ربكم الذي خلقكم.
{ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } والمعنى إن كان غرضكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضاي فأوفوا خروجكم حقه من معاداتهم ولا تلقوا إليهم بالمودة ولا تتخذوهم أولياء { تسرون إليهم بالمودة } أي تعلمونهم في السر أن بينكم وبينهم مودة. وقيل: الباء للتعليل أي تعلمونهم بأحوال الرسول في السر بالمودة التي بينكم وبينهم فعل من يظن أنه يخفى عليّ ما يفعله.
{ وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } لا يخفى عليّ شيء من ذلك فاطلع رسولي عليه { ومن يفعله منكم } أي ومن أسر إليهم بالمودة وألقى إليهم أخبار رسولي منكم يا جماعة المؤمنين بعد هذا البيان { فقد ضل سوآء السبيل }
أي عدل عن طريق الحق وجار عن سبيل الرشد.
وفي هذه الآية دلالة على أن الكبيرة لا تخرج عن الإيمان لأن أحد من المسلمين لا يقول إن حاطباً قد خرج من الإيمان بما فعله من الكبيرة الموبقة.
{ إن يثقفوكم } يعني أن هؤلاء الكفار يصادفوكم مقهورين ويظفروا بكم { يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } أي يمدّوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل ويبسطوا إليكم ألسنتهم بالشتم والمعنى أنهم يعادونكم ولا ينفعكم ما تلقون إليهم ولا يتركون غاية في إلحاق السوء بكم باليد واللسان { وودوا } مع ذلك { لو تكفرون } بالله كما كفروا وترجعون عن دينكم.
{ لن تنفعكم أرحامكم } أي ذوو أرحامكم والمعنى قراباتكم { ولا أولادكم } أي لا يحملنكم قراباتكم ولا أولادكم التي بمكة على خيانة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فلن ينفعكم أولئك الذين عصيتم الله لأجلهم { يوم القيامة يفصل } الله { بينكم } فيدخل أهل الإيمان والطاعة الجنة وأهل الكفر والمعصية النار ويميز بعضكم من بعض ذلك اليوم فلا يرى القريب المؤمن في الجنة قريبه الكافر في النار وقيل معناه يقضي بينكم من فصل القضاء { والله بما تعملون بصير } أي عليم بأعمالكم علم الله سبحانه بما عمله حاطب من مكاتبة أهل مكة أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك.
ثم ضرب سبحانه لهم إبراهيم مثلاً في ترك موالاة الكفار فقال { قد كانت لكم أسوة حسنة } أي اقتداء حسن { في إبراهيم } خليل الله { والذين معه } ممن آمن به واتبعه. وقيل: الذين معه من الأنبياء عن ابن زيد { إذ قالوا لقومهم } الكفار { إنا بُرَءَآؤاْ منكم } فلا نواليكم { ومما تعبدون من دون الله } أي وبراء من الأصنام التي تعبدونها ويجوز أن يكون ما مصدرية فيكون المعنى ومن عبادتكم الأصنام { كفرنا بكم } أي يقولون لهم جحدنا دينكم وأنكرنا معبودكم { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً } فلا يكون بيننا موالاة في الدين.
{ حتى تؤمنوا بالله وحده } أي تصدقوا بوحدانية الله واخلاص التوحيد والعبادة له قال الفراء: يقول الله تعالى أفلا تأتسي يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرأ من أهلك كما تبرؤوا منهم أي من قومهم الكفار { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } أي اقتدوا بإبراهيم في كل أموره إلا في هذا القول فلا تقتدوا به فيه فإنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه بالإيمان فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه قال الحسن: وإنما تبين له ذلك عند موت أبيه ولو لم يستثن ذلك لظن أنه يجوز الاستغفار للكفار مطلقاً من غير موعده بالإيمان منهم فنهوا أن يقتدوا به في هذا خاصة عن مجاهد وقتادة وابن زيد. وقيل: كان آزر ينافق إبراهيم ويريه أنه مسلم ويعده إظهار الإسلام فيستغفر له عن الحسن والجبائي.
ثم قال { وما أملك لك من الله من شيء } إذا أراد عقابك ولا يمكنني دفع ذلك عنك { ربنا عليك توكلنا } أي وكانوا يقولون ذلك { وإليك أنبنا } أي { إلى طاعتك رجعنا { وإليك المصير } أي إلى حكمك المرجع وهذه حكاية لقول إبراهيم وقومه ويحتمل أن يكون تعليماً لعباده أن يقولوا ذلك فيفوِّضوا أمورهم إليه ويرجعون إليه بالتوبة.
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا ببلاء من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق لما أصابهم هذا البلاء عن مجاهد. وقيل: معناه ولا تسلطهم علينا فيفتنونا عن دينك. وقيل: معناه ألطف بنا حتى نصبر على أذاهم ولا نتبعهم فنصير فتنة لهم. وقيل: معناه اعصمنا من موالاة الكفار فإنا إذا واليناهم ظنوا أنا صوبناهم. وقيل: معناه لا تخذلنا إذا حاربناهم فلو خذلتنا لقالوا لو كان هؤلاء على الحق لما خذلوا { واغفر لنا ربنا } ذنوبنا { إنك أنت العزيز } الذي لا يغالب { والحكيم } الذي لا يفعل إلا الحكمة والصواب وفي هذا تعليم للمسلمين أن يدعوا بهذا الدعاء.