التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٢
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
٤
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
-الصف

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: المقت البغض والرصّ إحكام البناء يقال: رصصت البناء أي أحكمته وأصله من الرصاص أي جعلته كأنه بني بالرصاص لتلاؤمه وشدة اتصاله.
الإعراب: لم حذفت الألف من ما لشدة الاتصال مع ضعف حرف الاعتلال آخر الكلام لأنه حرف تعيير في موضع تعيير مقتاً نصب على التمييز وأن تقولوا في موضع رفع بأنه فاعل كبر والتقدير كبر هذا القول مقتاً عند الله. وقيل: إن الفاعل مضمر فيه والتقدير كبر المقت مقتاً عند الله نحو نعم رجلاً زيد والمخصوص بالذم أن تقولوا صفا مصدر في موضع الحال أي مصطفين.
النزول: نزل قوله { لم تقولون ما لا تفعلون } في المنافقين عن الحسن. وقيل: نزل في قوم كانوا يقولون إذا لقينا العدو لم نفرّ ولم نرجع عنهم ثم لم يفوا بما قالوا وانفلوا يوم أحد حتى شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته عن مقاتل والكلبي. وقيل: نزلت في قوم قالوا: جاهدنا وأبلينا وفعلنا ولم يفعلوا وهم كذبة عن قتادة. وقيل: لما أخبر الله سبحانه رسوله بثواب شهداء بدر قالت الصحابة لئن لقينا بعد قتالاً لنفرغن فيه وسعنا ثم فروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك عن محمد بن كعب.
وقيل: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبرهم الله أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد فكره ذلك ناس وشق عليهم وتباطؤوا عنه فنزلت الآية عن ابن عباس.
وقيل: كان رجل يوم بدر قد آذى المسلمين فقتله صهيب في القتال فقال رجل يا رسول الله قتلت فلاناً ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرو عبد الرحمن لصهيب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك قتلته وإن فلاناً ينتحله فقال صهيب: إنما قتلته لله ولرسوله فقال عمرو عبد الرحمن: يا رسول الله إنما قتله صهيب فقال: "كذلك يا أبا يحيى" قال: نعم يا رسول الله فنزلت الآية والآية الأخرى عن سعيد بن المسيب.
المعنى: { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } مرّ تفسيره وإنما أعيد ها هنا لأنه استفتاح السورة بتعظيم الله من جهة ما سبح له بالآية التي فيه كما يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم وإذا دخل المعنى في تعظيم الله حسن الاستفتاح به { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قيل إن الخطاب للمنافقين وهو تقريع لهم بأنهم يظهرون الإيمان ولا يبطنونه. وقيل: إن الخطاب للمؤمنين وتعيير لهم أن يقولوا شيئاً ولا يفعلونه فال الجبائي: هذا على ضربين:
أحدهما: أن يقول سأفعل ومن عزمه أن لا يفعله فهذا قبيح مذموم.
والآخر: أن يقول سأفعل ومن عزمه أن يفعله والمعلوم أنه لا يفعله فهذا قبيح لأنه لا يدري أيفعله أم لا ولا ينبغي في مثل هذا أن يقرن بلفظة إن شاء الله.
{ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } أي كبر هذا القول وعظم مقتاً عند الله وهو أن تقولوا ما لا تفعلونه. وقيل: معناه كبر أن تقولوا ما لا تفعلونه وتعدوا من أنفسكم ما لا تفون به مقتاً عند الله { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } أي يصفون أنفسهم عند القتال صفاً. وقيل: يقاتلون في سبيله مصطفين { كأنهم بنيان مرصوص } كأنه بني بالرصاص لتلاؤمه وشدة اتصاله. وقيل: كأنه حائط ممدود رص على البناء في أحكامه واتصاله واستقامته أعلم الله سبحانه أنه يحب من ثبت في القتال ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص ومعنى محبة الله إياهم أنه يريد ثوابهم ومنافعهم.
ثم ذكر سبحانه حديث موسى (ع) في صدق نيته وثبات عزيمته على الصبر في أذى قومه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تكذيبهم إياه فقال { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } هذا إنكار عليهم إيذاءه بعد ما علموا أنه رسول الله والرسول يعظم ويبجل ولا يؤذى وكان قومه آذوه بأنواع من الأذى وهو قولهم
{ { اجعل لنا إلهاً } [الأعراف: 138] و { { اذهب أنت وربك فقاتلا } [المائدة: 24] وما روي في قصة قارون أنه دس إليه امرأة وزعم أنه زنى بها ورموه بقتل هارون. وقيل: إن ذلك حين رموه بالأدرة وقد ذكرنا ذلك عند قوله { { لا تكونوا كالذين آذوا موسى } [الأحزاب: 69] الآية.
{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } أي فلما مالوا عن الحق والاستقامة خلاهم وسوء اختيارهم ومنعهم الألطاف التي يهدي بها قلوب المؤمنين كقوله
{ { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [التغابن: 11] عن أبي مسلم. وقيل: أزاغ الله قلوبهم عما يحبون إلى ما يكرهون ولا يجوز أن يكون المراد أزاغ الله قلوبهم عن الإيمان لأن الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحداً عن الإيمان وأيضاً فإنه يخرج الكلام عن الفائدة لأنهم إذا زاغوا عن الإيمان فقد حصلوا كفاراً فلا معنى لقوله أزاغهم الله عن الإيمان.
{ والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يهديهم الله إلى الثواب والكرامة والجنة التي وعدها المؤمنين. وقيل: لا يفعل بهم الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين بل يخليهم واختيارهم عن أبي مسلم.