التفاسير

< >
عرض

يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
١
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
٢
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
٤
ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
-الطلاق

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حفص عن عاصم { بالغ } بغير تنوين أمره بالجر على الإضافة والباقون { بالغ } بالتنوين أمره بالنصب وفي الشواذ قراءة داود بن أبي هند أن الله بالغ بالتنوين أمره بالرفع وروي عن ابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وعلي بن الحسين (ع) وزيد ابن علي وجعفر بن محمد ومجاهد { فطلقوهن } في قبل عدتهن.
الحجة: قال أبو علي قوله { بالغٌ أَمْرَه } على سيبلغ أمره فيما يريده فيكم فهذا هو الأصل وهو حكاية حال ومن أضاف حذف التنوين استخفافاً والمعنى معنى ثبات التنوين مثل عارض ممطرنا وأما قوله في قبل عدتهن فإنه تفسير للقراءة المشهورة { فطلقوهن لعدتهن } أي عند عدتهن ومثله قوله { لا يجليها لوقتها } أي عند وقتها ومن قرأ { بالغ أمره } فالمعنى أمره بالغ ما يريده الله به وقد بلغ أمر الله ما أراده فالمفعول على ما رأيت محذوف.
الإعراب: { واللائي لم يحضن } مبتدأ خبره محذوف لدلالة الكلام عليه فإذا جاز حذف الجملة بأسرها جاز حذف بعضها وقد جاء أيضاً في الصفة وإن قلَّ نحو قوله { وأوتيت من كل شيء } تقديره من كل شيء تؤتاه.
المعنى: نادى سبحانه نبيَّه فقال { يا أيها النبي } ثم خاطب أمته فقال { إذا طلقتم النساء } لأنه السيد المقدم فإذا نودي وخوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب عن الحسن وغيره. وقيل: إن تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء عن الجبائي فعلى هذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً عن الحكم وعلى القول الأول حكمه حكم أمته في أمر الطلاق وعلى هذا انعقد الإجماع والمعنى إذا أردتم طلاق النساء مثل قوله سبحانه
{ إذا قمتم إلى الصلاة } [المائدة: 6] وقوله { فإذا قرأت القرآن } [النحل: 98] { فطلقوهن لعدتهن } أي لزمان عدتهن وذلك أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي فهذا هو الطلاق للعدة لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها وتحصل في العدة عقيب الطلاق فالمعنى فطلّقوهن لطهرهنّ الذي يحصينه من عدتهن ولا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن فعلى هذا يكون العدة الطهر على ما ذهب إليه أصحابنا وهو مذهب الشافعي.
وقيل: إن المعنى قبل عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه العدة الحيض كما يقال توضأت للصلاة ولبست السلاح للحرب وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وقيل: إن اللام للسبب فكأنه قال فطلقوهنّ ليعتددن ولا شبهة أن هذا الحكم للمدخول بها لأن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها وقد ورد به التنزيل في سورة الأحزاب وهو قوله
{ فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } [الأحزاب: 49] وظاهر الآية يقتضي أنه إذا طلقها في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه فلا يقع الطلاق لأن الأمر يقتضي الإيجاب وبه قال سعيد بن المسيب وذهبت إليه الشيعة الإمامية.
وقال باقي الفقهاء يقع الطلاق وإن كان بدعة وخلاف المأمور به وكذلك إن جمع بين التطليقات الثلاث فإنها بدعة عند أبي حنيفة وأصحابه وإن كانت واقعة وعند المحققين من أصحابنا يقع واحدة عند حصول شرائط صحة الطلاق والطلاق في الشرع عبارة عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح وذلك أن يقول أنت طالق يخاطبها أو يقول هذه طالق ويشير إليها أو يقول فلانة بنت فلان طالق ولا يقع الطلاق عندنا إلا بهذا اللفظ لا بشيء من كنايات الطلاق سواء أراد بها الطلاق أو لم يرد بها وفي تفصيل ذلك اختلافات بين الفقهاء ليس ها هنا موضعه.
وقد يحصل الفراق بغير الطلاق كالارتداد واللعان كالخلع عند كثير من أصحابنا وإن لم يسم ذلك طلاقاً ويحصل أيضاً بالفسخ للنكاح بأشياء مخصوصة وبالرد بالعيب وإن لم يكن ذلك طلاقاً.
وروى البخاري ومسلم عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء.
وروى البخاري عن سليمان بن حرب وروى مسلم عن عبد الرحمن بن بشر عن بهز وكلاهما عن شعبة عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر يقول:
"طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها إن شاء" وجاءت الرواية عن علي بن أبي طالب (ع) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش" وعن ثوبان رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات" وعن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق" هذه الأحاديث الأربعة منقولة عن تفسير الثعلبي.
ثم قال سبحانه { وأحصوا العدة } أي عدوا الأقراء التي تعتدّ بها. وقيل: معناه عدّوا أوقات الطلاق لتطلقوا للعدة وإنما أمر الله سبحانه بإحصاء العدة لأن لها فيها حقاً وهي النفقة والسكنى وللزوج فيها حقاً وهي المراجعة ومنعها عن الأزواج لحقه وثبوت نسب الولد فأمره تعالى بإحصائها ليعلم وقت المراجعة ووقت فوت المراجعة وتحريمها عليه ورفع النفقة والسكنى ولكيلا تطول العدة لاستحقاق زيادة النفقة أو تقصيرها لطلب الزوج والعدة هي قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة في الشريعة وهي على ضروب, فضرب يكون بالأقراء لمن تحيض, وضرب يكون بالأشهر للصغيرة التي لم تبلغ المحيض ومثلها تحيض وهي التي بلغت تسع سنين وإذا كان سنّها أقل من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا.
وقال بعضهم: عدتها بالشهور وبه قال الفقهاء وكذلك الكبيرة الآيسة من المحيض ومثلها تحيض عدتها بالشهور وحدَّه أصحابنا بأن يكون سنّها أقل من خمسين سنة ومن ستين سنة للقرشيات فإن كان سنها أكثر من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا والمتوفى عنها زوجها عدتها بالشهور أيضاًَ.
والضرب الثالث من العدة يكون بوضع الحمل في الجميع إلا في المتوفى عنها زوجها فإن عدتها عند أصحابنا أبعد الأجلين وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء ثم إن عدة الطلاق للحرة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر ولأمة قرءان أو شهر ونصف ووضع الحمل لا يختلف.
قال سبحانه { واتقوا الله ربكم } ولا تعصوه فيما أمركم به { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } هن أيضاً يعني في زمان العدة لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يسكنها فيه قبل الطلاق وعلى المرأة أيضاً أن لا تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أَثِمَت { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } أي ظاهرة ومن قرأ بفتح الياء فالمراد بفاحشة مظهرة أظهرتها واختلف في الفاحشة فقيل: إنها الزنا فتخرج لإقامة الحد عليها عن الحسن ومجاهد والشعبي وابن زيد. وقيل: هي البذاءة على أهلها فيحل لهم إخراجها عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).
وروى علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا قال: الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها وتسبّهم. وقيل: هي النشوز فإن طلقها على نشوز فلها أن تتحوَّل من بيت زوجها عن قتادة. وقيل: هي خروجها قبل انقضاء العدة عن ابن عمر وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: إن كل معصية لله تعالى ظاهرة فهي فاحشة.
{ وتلك حدود الله } يعني ما ذكره سبحانه من أحكام الطلاق وشروطه { ومن يتعد حدود الله } بأن يطلق على غير ما أمر الله تعالى به { فقد ظلم نفسه } أي أثم فيما بينه وبين الله عز وجل وخرج عن الطاعة إلى المعصية وفعل ما يستحق به العقاب.
{ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أي يغير رأي الزوج في محبة الطلاق ويوقع في قلبه المحبة لرجعتها فيما بين الطلقة الواحدة والثانية وفيما بين الثانية والثالثة قال الضحاك والسدي وابن زيد لعل الله يحدث الرجعة في العدة وقال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى له لقوله { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } وفي هذه الآية دلالة على أن الواجب في التطليق أن يوقع متفرقاً ولا يجوز الجمع بين الثلاث لأن الله تعالى أكَّد قوله { فطلقوهن لعدتهن } بقوله { وأحصوا العدة } ثم زاد في التأكيد بقوله { واتقوا الله ربكم } فيما حدَّه الله لكم فلا تعتدوه.
ثم قرَّر سبحانه حق الزوج في المراجعة بقوله { لا تخرجوهن من بيوتهن } فإن الزوجة إذا لم ترم بيتها تمكن الزوج من مراجعتها ثم دلَّ بقوله { وتلك حدود الله } على أن من تعدّى حدود الله تعالى في الطلاق بطل حكمه وصار قوله { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } تأكيداً لحدود الله في الطلاق وإعلاماً بأن حق الرجعة لا ينقطع بجمع الطلاق فكأنه قال كونوا على رجاء الفائدة بالرجعة فقد يحدث الله الرغبة بعد الطلاق فإن قالوا قد أمر الله سبحانه في الآية بطلاق العدة فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلاق العدة فالجواب أن طلاق السنة أيضاً طلاق العدة .
إلا أن أصحابنا رضي الله عنهم قد اصطلحوا على أن يسمّوا الطلاق الذي لا يزاد عليه بعد المراجعة طلاق السنة والطلاق الذي يزاد عليه بشرط المراجعة طلاق العدة ومما يعضد ما ذكرته ما اشتهر من الأخبار في كتبهم ورواياتهم ونقل عن متقدميهم مثل زرارة بن أعين وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وغيرهم فمن ذلك ما رواه يونس عن بكير بن أعين عن أبي جعفر (ع) قال الطلاق أن يطلق الرجل المرأة على طهر من غير جماع ويشهد رجلين عدلين على تطليقه ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء فهذا الطلاق الذي أمر الله به في القرآن وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته وكل طلاق لغير مدة فليس بطلاق.
وعن جرير قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن طلاق السنة فقال: على طهر من غير جماع بشاهدي عدل ولا يجوز الطلاق إلا بشاهدين والعدة وهو قوله { فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة } الآية وروى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن زرارة عن أبي جعفر (ع) أنه قال كل طلاق لا يكون على السنة وإطلاق على العدة فليس بشيء.
قال زرارة: قلت لأبي جعفر فسِّر لي طلاق السنة وطلاق العدة فقال أما طلاق السنة فهو أن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته فلينتظر بها حتى تطمث وتطهر فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين على ذلك ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها وقد بانت منه وكان خاطباً من الخطاب إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوجه وعليه نفقتها والسكنى ما دامت في العدة وهما يتوارثان حتى تنقضي العدة وأما طلاق العدة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضها ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها من يومه ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه حتى تحيض فإذا حاضت وخرجت من حيضها طلَّقها تطليقة أخرى من غير جماع ويشهد على ذلك أيضاً متى شاء قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه حتى تحيض الحيضة الثالثة فإذا خرجت من حيضها طلَّقها الثالثة بغير جماع ويشهد على ذلك فإذا فعل ذلك فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
والروايات في هذا كثيرة عن أئمة الهدى (ع) فعلى هذا فإنه يتركها في طلاق السنة حتى تعتد ثلاثة قروء فإذا مضى ثلاثة قروء فإنها تبين منه بواحدة وإذا تزوجها بعد ذلك بمهر جديد كانت عنده على تطليقتين باقيتين فإن طلَّقها أخرى طلاق السنة وتركها حتى تمضي أقراؤها فلا يراجعها فقد بانت منه باثنتين فإن تزوجها بعد ذلك وطلَّقها لم تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره ولو شاء أن يراجعها بعد الطلقة الأولى والثانية لكان ذلك إليه فقد تبيَّن أن هذا الطلاق هو طلاق للعدة أيضاً إلا أن الفرق بينهما ما ذكرناه.
{ فإذا بلغن أجلهن } معناه فإذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج من العدة { فأمسكوهن بمعروف } أي راجعوهن بما يجب لهن من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة { أو فارقوهن بمعروف } بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة فتبين منكم ولا يجوز أن يكون المراد بقوله { فإذا بلغن أجلهن } إذا انقضى أجلهن لأن الزوج لا يملك الرجعة بعد انقضاء العدة بل هي تملك نفسها وتبين منه بواحدة ولها أن تتزوج من شاءت من الرجال.
{ وأشهدوا ذوي عدل منكم } قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة ولا الرجل الطلاق. وقيل: معناه واشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم وهو المروي عن أئمتنا (ع) وهذا أليق بالظاهر لأنا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب وهو من شرائط صحة الطلاق ومن قال إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب.
{ وأقيموا الشهادة لله } هذا خطاب للشهود أي أقيموها لوجه الله واقصدوا بأدائها التقرب إلى الله لا الطلب لرضا المشهود له والإشفاق من المشهود عليه { ذلكم } الأمر بالحق يا معشر المكلفين { يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أي يؤمر به المؤمنون لينزجروا به عن الباطل وخصَّ المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به فالطاعة الواجبة فيها وعظ بأن رغب فيها باستحقاق الثواب وفي تركها العقاب والمندوبة فيها وعظ باستحقاق المدح والثواب على فعلها والمعاصي فيها وعظ بالزجر عنها والتخويف من فعلها باستحقاق العقاب والترغيب في تركها بما يستحق على الإخلال بها من الثواب.
{ ومن يتق الله } فيما أمره به ونهاه عنه { يجعل له مخرجاً } من كل كرب في الدنيا والآخرة عن ابن عباس وروي عن عطاء عن يسار عن ابن عباس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } قال:
" من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة" وعنه قال: "من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً" . وقيل: معناه ومن يطلق للسنة يجعل الله له مخرجاً الرجعة.
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } عن عكرمة والشعبي والضحاك. وقيل: إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابناً له فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة فقال له اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل الرجل ذلك فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلاً وجاء بها إلى أبيه فذلك قوله { ويرزقه من حيث لا يحتسب }.
وروي عن الصادق (ع) إنه قال { ويرزقه من حيث لا يحتسب } أي يبارك له فيما آتاه وعن أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم { ومن يتق الله } " الآية فما زال يقولها ويعيدها.
{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي ومن يفوّض أمره إلى الله ووثق بحسن تدبيره وتقديره فهو كافيه يكفيه أمر دنياه ويعطيه ثواب الجنة ويجعله بحيث لا يحتاج إلى غيره وفي الحديث:
"من سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله" .
{ إن الله بالغ أمره } أي يبلغ ما أراد من قضاياه وتدابيره على ما أراده ولا يقدر أحد على منعه عما يريده. وقيل: معناه أنه منفذ أمره فيمن يتوكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه { قد جعل الله لكل شيء قدراً } أي قدر الله لكل شيء مقداراً وأجلاً لا زيادة فيها ولا نقصان. وقيل: بيَّن لكل شيء مقداراً بحسب المصلحة في الإباحة والإيجاب والترغيب والترهيب كما بيَّن في الطلاق والعدة وغيرهما. وقيل: قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء وقتاً وغاية ومنتهى ينتهي إليه.
ثم بيَّن سبحانه اختلاف أحكام العدة باختلاف أحوال النساء فقال { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } فلا يحضن { إن ارتبتم } فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهن أم لعارض ثلاثة أشهر وهن اللواتي أمثالهن يحضن لأنهن لو كنَّ في سن من لا تحيض لم يكن للارتياب معنى وهذا هو المروي عن أئمتنا (ع). وقيل: معناه إن شككتم فلم تدروا أدمهن دم حيض أو استحاضة { فعدتهن ثلاثة أشهر } عن مجاهد والزهري وابن زيد. وقيل: معناه إن ارتبتم في حكمهن فلم تدروا ما الحكم فيهن.
{ واللآئي لم يحضن } تقديره واللآئي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر وحذف لدلالة الكلام الأول عليه وهن اللواتي لم يبلغن المحيض ومثلهن تحيض على ما مرَّ بيانه.
{ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } قال ابن عباس هي في المطلقات خاصة وهو المروي عن أئمتنا (ع) فاما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً فعدتها أبعد الأجلين فإذا مضت بها أربعة أشهر وعشر ولم تضع انتظرت وضع الحمل وقال ابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأكثر الفقهاء أنه عام في المطلقات والمتوفى عنها زوجها فعدتهن وضع الحمل فإن كانت المرأة حاملاً باثنين ووضعت واحد لم تحل للأزواج حتى تضع جميع الحمل لقوله { أن يضعن حملهن } وروى أصحابنا أنها إذا وضعت واحداً انقطعت عصمتها من الزوج ولا يجوز لها أن تعقد على نفسها لغيره حتى تضع الآخر فأما إذا كانت قد توفّي عنها زوجها فوضعت قبل الأشهر الأربعة والعشر وجب عليها أن تستوفي أربعة أشهر وعشراً.
{ ومن يتق الله } في جميع ما أمره بطاعته فيه { يجعل له من أمره يسراً } أي يسهل عليه أمور الدنيا والآخرة إما بفرج عاجل أو عوض آجل. وقيل: يسهل عليه فراق أهله ويزيل الهموم عن قلبه.
{ ذلك } يعني ما ذكره سبحانه من الأحكام في الطلاق والرجعة والعدة { أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله } بطاعته { يكفر عنه سيئاته } من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة قال الربيع: إن الله قد قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه ومن أقرضه جازاه ومن وثق به أنجاه ومن دعاه أجابه ولبّاه وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 3] و
{ من يؤمن بالله يهد قلبه } [التغابن: 11] { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم } [التغابن: 17] و { من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } [آل عمران: 101] و { إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب } [البقرة: 186] الآية { ويعظم له أجراً } في الأخر وهو ثواب الجنة.