التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
-الملك

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة والكسائي من تفوّت بتشديد الواو من غير ألف وهي قراءة الأعمش والباقون تفاوت بالألف.
الحجة: قال أبو الحسن: تفاوت أجود لأنهم يقولون تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون تفوَّت الأمر قال وهي أظن لغة قال سيبويه قد يكون فاعل وفعل بمعنى نحو ضاعف وضعف وتفاعل مطاوع فاعل كما أن تفعل مطاوع فعل فعلى هذا القياس يكون تفاعل وتفعل بمعنى وتفاوت وتفوت بمعنى.
اللغة: تبارك أصله من البرك وهو ثبوت الطائر على الماء والبركة ثبوت الخير بنمائه وقوله طباقاً مصدر طوبقت طباقاً فهي مطبق بعضها على بعض عن الزجاج. وقيل: هو جمع طبق مثل جمل وجمال والتفاوت الاختلاف والاضطراب والفطور الشقوق والصدوع من الفطر وهو الشق الخاسىء الذليل الصاغر. وقيل: هو البعيد مما يريده منه. وقيل للكلب اخسأ والحسير من الإبل المعيي الذي لا فضل فيه للسير قال:

بِها جِيَفُ الْحَسْرى فَأَمّا عِظامُها فَبِيــضٌ وَأَمـَّــا جِلْدُهـا فَصَلِيبُ

والسعير النار المسعرة واعتدنا أصله أعددنا أي هيّأنا فأبدلت الدال تاء.
الإعراب: { الذي خلق } بدل من الذي بيده الملك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف فعلى هذا الوجه يجوز الوقف على ما قبله وعلى الوجه الأول لا يجوز وقوله { أيكم أحسن عملاً } تعليق لأن التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملاً وارتفع أَيّ بالابتداء وإنما لم يعمل فيه ما قبله لأنه على أصل الاستفهام وطباقاً نصب على الحال إذا أردنا في سماوات معنى الألف واللام وإن جعلناها نكرة كان طباقاً صفتها وقوله كرتين منصوب على المصدر أي رجعتين.
المعنى: أخبر سبحانه عن عظمته وعلو شأنه وكمال قدرته فقال { تبارك } أي تعالى وجلّ عما لا يجوز عليه في ذاته وأفعاله عن أبي مسلم. وقيل: معناه تعالى بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: معناه تعاظم بالحق من ثبوت الأشياء به إذ لولاه لبطل كل شيء لأنه لا يصحّ سواه شيء إلا وهو مقدوره أو مقدور مقدوره الذي هو القدرة. وقيل: معناه تعالى مَنْ جميعُ البركات منه إلا أن هذا المعنى مضمر في الصفة غير مصرّح به وإنما المصرح به أنه تعالى باستحقاق التعظيم.
{ الذى بيده الملك } والملك هو اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير ومعناه الذي هو المالك وله الملك يؤتيه من يشاء ويتصرف فيه كما يشاء وإنما ذكر اليد تأكيداً ولأن أكثر التصرفات والعطايا باليد.
{ وهو على كل شيء قدير } من إنعام وانتقام. وقيل: معناه أنه قادر على كل شيء يصح أن يكون مقدوراً له وهو أخصّ من قولنا
{ { وهو بكل شيء عليم } [البقرة: 29] لأنه لا شيء إلا ويجب أن يعلمه إذ لا شيء إلا ويصح أن يكون معلوماً في نفسه ولا يوصف سبحانه بكونه قادراً على ما لا يصح أن يكون مقدوراً في نفسه مثل ما تقضى وقته مما لا يبقى.
ثم وصف سبحانه نفسه فقال { الذي خلق الموت والحياة } أي خلق الموت للتعبد بالصبر عليه والحياة للتعبد بالشكر عليها. وقيل: خلق الموت للاعتبار والحياة للتزود. وقيل: إنما قدَّم ذكر الموت على الحياة لأنه إلى القهر أقرب كما قدَّم البنات على البنين في قوله
{ { يهب لمن يشاء إناثاً } [الشورى: 49]. وقيل: إنما قدَّمه لأنه أقدم فإن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الأموات كالنطفة والتراب ثم اعترضت الحياة { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر والنهي فيجازي كل عامل بقدر عمله. وقيل: { ليبلوكم أيّكم } أكثر للموت ذكراً وأحسن له استعداداً وأحسن صبراً على موته وموت غيره وأيّكم أكثر امتثالاً للأوامر واجتناباً عن النواهي في حال حياته.
قال أبو قتادة: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى { أيكم أحسن عملاً } ما عنى به فقال يقول أيكم أحسن عقلاً ثم قال:
"أتمّكم عقلاً وأشدّكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً وإن كان أقلكم تطوعاً" وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تلا قوله تعالى { تبارك الذي بيده الملك } إلى قوله { أيكم أحسن عملاً } ثم قال: "أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله" . وعن الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها.
{ وهو العزيز } في انتقامه ممن عصاه { الغفور } لمن تاب إليه أو لمن أراد التفضل عليه بإسقاط عقابه والتكليف إنما يصحّ بالترغيب والترهيب لأن معناه تحمل المشقة في الأمر والنهي.
ثم عاد سبحانه إلى وصف نفسه فقال { الذي خلق سبع سماوات } أي أنشأهن واخترعهن { طباقاً } واحدة فوق الأخرى. وقيل: أراد بالمطابقة المشابهة أي يشبه بعضها بعضاً في الإتقان والإحكام والاتساق والانتظام { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أي اختلاف وتناقض من طريق الحكمة بل ترى أفعاله كلها سواء في الحكمة وإن كانت متفاوتة في الصور والهيئات يعني في خلق الأشياء على العموم وفي هذا دلالة على أن الكفر والمعاصي لا يكون من خلق الله تعالى لكثرة التفاوت في ذلك. وقيل: معناه ما ترى يا ابن آدم في خلق السماوات من عيب واعوجاج بل هي مستقيمة مستوية كلها مع عظمها { فارجع البصر } أي فردّ البصر وأدره في خلق الله واستقص في النظر مرة بعد أخرى والتقدير انظر ثم ارجع النظر في السماء { هل ترى من فطور } أي شقوق وفتوق عن سفيان. وقيل: من وهن وخلل عن ابن عباس وقتادة.
{ ثم ارجع البصر كرتين } أي ثم كرّر النظر مرتين لأن من نظر في الشيء كرة بعد أخرى بأن له ما لم يكن بائناً. وقيل: معناه أدم النظر والتقدير ارجع البصر مرة بعد أخرى ولا يريد حقيقة التثنية لقوله { وهو حسير } ولا يصير حسيراً بمرتين ونظيره قولهم لبيك وسعديك أي إلباباً بعد إلباب وإسعاداً بعد إسعاد يعني كلما دعوتني فأنا ذو إجابة بعد إجابة وذو ثبات بمكاني بعد ثبات من قولهم لبَّ بالمكان وألب إذا ثبت وأقام وهو نصب على المصدر أي أجيبك إجابة بعد إجابة.
{ ينقلب إليك البصر خاسئاً } أي يرجع إليك بصرك بعيداً عن نيل المراد ذليلاً صاغراً عن ابن عباس كانه ذلَّ كذلة من طلب شيئاً فلم يجده وأبعد عنه { وهو حسير } أي كالٌّ معيّ عن قتادة والتحقيق أن بصر هذا الناظر بعد الإعياء يرجع إليه بعيداً عن طلبته خائباً في بغيته.
ثم أقسم سبحانه فقال { ولقد زيّنا السماء الدنيا } لأن هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم أي حسّنّا السماء الدنيا يعني التي هي أدنى إلى الأرض وهي التي يراها الناس { بمصابيح } واحدها مصباح يعني الكواكب سمّاها المصابيح لإضاءتها وهي السرج { وجعلناها رجوماً للشياطين } الذين يسترقون السمع. وقيل: ينفصل من الكواكب شهب تكون رجوماً للشياطين فأما الكواكب أنفسها فليست تزول إلى أن يريد الله تعالى إفناءها عن الجبائي { واعتدنا لهم عذاب السعير } يعني أنا جعلنا مع الكواكب رجوماً للشياطين هيّأنا لهم وادّخرنا لأجلهم عذاب النار المسعرة المشعلة وفي هذا دلالة على أن الشياطين مكلفة.