التفاسير

< >
عرض

إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٣٤
أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ
٣٥
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٦
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ
٣٧
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
٣٨
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
٣٩
سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ
٤٠
أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٤١
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٤٢
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ
٤٣
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٤
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
٤٥
-القلم

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الزعيم والكفيل والضمين والقبيل نظائر والساق للإنسان وساق الشجرة ما تقوم عليه وكل نبت له ساق ويبقى صيفاً وشتاء فهو شجرة قال طرفة:

لِلْفَتـى عَقْــلٌ يَعِيشُ بِهِ حَيْثُ تَهْدِي ساقَهُ قَدَمُهْ

وتقول العرب قامت الحرب على ساق وكشفت عن ساق يريدون شدتها وقال جد أبي طرفة:

كَشَفَــتْ لَكُـمْ عَنْ ساقِها وَبَدا مِنَ الشَّرِ الصُّراحُ

وقال آخر:

قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ ساقِها فَشُدُّواوَجَــدَّتِ الْحَربُ بِكُمْ فَجدُّوا
وَالقَــوْسُ فِيهــا وَتَرٌ عـُـرُدُّ

الإعراب: { كيف } في محل نصب على الحال تقديره أجائرين تحكمون أم عادلين ويجوز أن يكون في محل المصدر وتقديره أيُّ حكم تحكمون وتحكمون في موضع النصب على الحال من معنى الفعل في قوله { لكم } لأن معنى قوله { مالكم } أيُّ شيء ثبت لكم وأم في جميع ذلك منقطعة إنَّ لكم فيه لما تخيَّرون كسرت أنَّ لمكان اللام في لما ولولاها لوجب فتحها لأنه مفعول تدرسون وهو كقوله { { والله يعلم أنك لرسوله } [المنافقون: 1] وقوله { إن لكم لما تحكمون } مثله وإن شئت قلت إنما كسرت إن لأن ما قبله يمين وهي تكسر في جواب القسم وقوله يوم يكشف عن ساق العامل في الظرف قوله فليأتوا وخاشعة أبصارهم حال ومَنْ يُكَذِّب يجوز أن يكون مفعولاً معه ويجوز أن يكون عطفاً على ضمير المتكلم من ذرني.
المعنى: لما ذكر سبحانه ما أعدَّه بالآخرة للكافرين عقَّبه بذكر ما أعدَّه للمتقين فقال { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } يتنعمون فيها ويختارونها على جنات الدنيا التي يحتاج صاحبها إلى المشقة والعناء.
ثم استفهم سبحانه على وجه الإنكار فقال { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } أي لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء والثواب وذلك أنهم كانوا يقولون إن كان بعث وجزاء كما يقوله محمد فإن حالنا يكون أفضل في الآخرة كما في الدنيا فأخبر سبحانه أن ذلك لا يكون أبداً { ما لكم كيف تحكمون } هذا تهجينٌ لهم وتوبيخ ومعناه أيُّ عقل يحملكم على تفضيل الكفار حتى صار سبباً لإصراركم على الكفر ولا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء والأعداء في دار الجزاء.
{ أم لكم كتاب فيه تدرسون } معناه بل ألكم كتاب تدرسون فيه ذلك فأنتم متمسكون به لا تلتفتون إلى خلافه فإذا قد عدمتم الثقة بما أنتم عليه وفي الكتاب الذي هو القرآن عليكم أكبر الحجة لأنه الدلالة القائمة إلى وقت قيام الساعة والمعجزة الشاهدة بصدق من ظهرت على يده.
{ إن لكم فيه لما تخيرون } فيه وجهان أحدهما: أن تقديره أم لكم كتاب فيه تدرسون بأن لكم فيه ما تخيرون إلا أنه حذف الباء وكسرت إن لدخول اللام في الخبر والثاني: أن معناه أن لكم لما تخيرونه عند أنفسكم والأمر بخلاف ذلك ولا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الخير المطلق.
{ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة } أي بل لكم عهود ومواثيق علينا عاهدناكم بها فلا ينقطع ذلك إلى يوم القيامة { إن لكم لما تحكمون } لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. وقيل: بالغة معناها مؤكدة وكل شيء متناه في الجودة والصحة فهو بالغ.
ثم قال سبحانه لنبيه { سلهم } يا محمد { أيهم بذلك زعيم } يعني أيّهم كفيل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين { أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } معناه أم لهم شركاء في العبادة مع الله وهي الأصنام فليأتوا بهؤلاء الشركاء إن كانوا صادقين في أنها شركاء الله. وقيل: معناه أم لهم شهداء يشهدون لهم بالصدق فتقوم به الحجة فليأتوا بهم يوم القيامة يشهدون لهم على صحة دعواهم إن كانوا صادقين في دعواهم.
{ يوم يكشف عن ساق } أي فليأتوا بهم في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال والشدائد. وقيل: معناه يوم يبدو عن الأمر الشديد الفظيع عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير قال عكرمة: سأل ابن عباس عن قوله { يوم يكشف عن ساق } فقال: إذا خفي عليكم شيء في القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:

وقامت الحـرب بنــا على ســاق

هو يوم كرب وشدة. وقال القتيبي: أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه يشمر عن ساقه فاستعير الكشف عن الساق في موضع الشدة وأنشد لدريد بن الصمة:

كميشُ الإزارِ خارجٌ نِصْفُ ساقِهِ بَعِيــدٌ مـِــنَ الآفاتِ طَــلاَّعُ أَنْجُدِ

فتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق { ويدعون إلى السجود } أي يقال لهم على وجه التوبيخ اسجدوا { فلا يستطيعون } وقيل: معناه أن شدة الأمر وصعوبة ذلك اليوم تدعوهم إلى السجود وإن كانوا لا ينتفعون به ليس أنهم يؤمرون به وهكذا كما يفزع الإنسان إلى السجود إذا أصابه هول من أهوال الدنيا { خاشعة أبصارهم } أي ذليلة أبصارهم لا يرفعون نظرهم عن الأرض ذلَّة ومهانة { ترهقهم ذلة } أي تغشاهم ذلة الندامة والحسرة { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } أي أصحاء يمكنهم السجود فلا يسجدون يعني أنهم كانوا يؤمرون بالصلاة في الدنيا فلم يفعلوا قال سعيد بن جبير كانوا يسمعون حيَّ على الفلاح فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات وقد ورد عن الربيع بن خيثم أنه عرض له الفالج فكان يهادى بين رجلين إلى المسجد فقيل له: يا أبا يزيد لو جلست فإن لك رخصة قال من سمع حيَّ على الفلاح فليجب ولو حبواً.
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أنهما قالا في هذه الآية أفحم القوم ودخلتهم الهيبة وشخصت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر لما رهقهم من الندامة والخزي والمذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون أي يستطيعون الأخذ بما أمروا به والترك لما نهوا عنه ولذلك ابتلوا وقال مجاهد وقتادة يؤذن المؤذن يوم القيامة فيسجد المؤمن وتصلب ظهور المنافقين فيصير سجود المسلمين حسرة على المنافقين وندامة وفي الخبر أنه تصير ظهور المنافقين كالسفافيد ثم قال سبحانه { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } هذا تهديد معناه فذرني والمكذبين أي كل أمرهم إليَّ كما يقول القائل دعني وإياه يقول خَلِّ بيني وبين من يكذب بهذا القرآن ولا تشغل قلبك به فإِني أكفيك أمره { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } أي سنأخذهم إلى العقاب حالاً بعد حال وقد مرَّ تفسيره في سورة الأعراف وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمة فيدع الاستغفار فهو الاستدراج { وأملي لهم أن كيدي متين } أي وأطيل آجالهم ولا أبادر إلى عذابهم مبادرة من يخشى الفوت فإنما يعجل من يخاف الفوت أن عذابي لشديد.