التفاسير

< >
عرض

إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ
١١
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ
١٢
فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ
١٣
وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً
١٤
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١٥
وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ
١٦
وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
١٧
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ
١٨
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ
١٩
إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ
٢٠
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
٢١
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
٢٢
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ
٢٣
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ
٢٤
-الحاقة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير في رواية القواس { وتعيها } بسكون العين مختلساً وهو بين الكسر والسكون والباقون بكسر العين وقرأ حمزة والكسائي لا يخفى بالياء والباقون بالتاء.
الحجة: الوجه في سكون العين من تعيها أنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخد فاسكن لأن حرف المضارعة لا تنفصل من الفعل فصار كقولك فهو وفهي والياء والتاء في قوله لا يخفى حسن.
اللغة: الجارية السفينة التي من شأنها أن تجري على الماء والجارية المرأة الشابة لأنه يجري فيها ماء الشباب يقال وعيت العلم أعيه وعياً وأوعيت المتاع جعلته في الوعاء قال:

إذا لَمْ تَكُنْ حافِظاً واعِياً فَجَمْعُـــكَ لِلْكُتْـبِ لا يَنْفَعُ

والدك البسط ومنه الدكان واندك سنام البعير إذا انفرش على ظهره والإرجاء النواحي وأحدها رجا مقصور والتثنية رجوان وهاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم تقول للواحد هاءَ يا رجل وللاثنين هاؤُما يا رجلان وللجماعة هاؤم يا رجال وللمرأة هاءِ يا امرأة بكسر الهمزة وليس بعدها ياء وللمرأتين هاؤما وللنساء هاؤنَّ هذه لغة أهل الحجاز وتميم وقيس يقولون هاءَ يا رجل مثل قول أهل الحجاز وللاثنين هاء وللجماعة هاؤا وللمرأة هائي وللنساء هَأْنَ وبعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول هاك هاكما هاكم هاكِ هاكما هاكنَّ ومعناه خذ وتناول ويؤمر بها ولا ينهي ووقف الكسائي على هاؤم وابتدأ { اقرؤوا كتابيه } إعلاماً منه أنه لا يذهب يذهب إلى أعمال الفعل الأول وإنما العمل للثاني والراضية المرضية فاعلة بمعنى مفعول لأنها في معنى ذات رضى كما قيل لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر قال النابغة:

كَلِينِي لِهَمٍ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ وَلَيْلٍ أُقاسِيِه بَطِيءُ الْكَواكِبِ

يعني ذو نصب فكأن العيشة أعطيت حتى رضيت لأنها بمنزلة الطالبة كما أن الشهوة بمنزلة الطالبة للمشتهي. وقيل: هو مثل ليل نائم وسرٌّ كاتم وماء دافق على وجه المبالغة في الصفة من غير التباس في المعنى والقطوف جمع قطف وهو ما يقطف من الثمر والقطف بالفتح المصدر.
الإعراب: كتابي مفعول اقرؤوا لأنه يليه { قطوفها دانية } جملة مجرورة الموضع لأنها صفة جنة.
المعنى: ثم بيَّن سبحانه قصة نوح (ع) فقال { إنا لما طغى الماء } أي جاوز الحدَّ المعروف حتى غرقت الأرض بما عليها إلا من شاء الله نجاته { حملناكم في الجارية } أي حملنا آباءكم في السفينة عن ابن عباس وابن زيد { لنجعلها لكم تذكرة } أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح ونجاة من حملناه عبرة لكم وموعظة تتذكرون بها نعم الله تعالى وتشكرونه عليها وتتفكرون فيها فتعرفون كمال قدرته وحكمته { وتعيها أذن واعية } أي وتحفظها أذن حافظة لما جاء من عند الله عن ابن عباس. وقيل: سامعة قايلة لما سمعت عن قتادة وقال الفراء لتحفظها كل أذن فتكون عظة لمن يأتي بعد.
وروى الطبري بإسناده عن مكحول أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اللهم أجعلها أذن علي" ثم قال عليّ (ع): فما سمعت شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسيته وروي بإسناده عن عكرمة عن بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي (ع): "يا علي إن الله تعالى أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وتعي وحق على الله أن تعي" فنزل وتعيها أذن واعية.
أخبرني فيما كتب بخطه إليّ المفيد أبو الوفاء عبد الجبار بن عبد الله بن علي الرازي قال: حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي والرئيس أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الكاتب والشيخ أبو عبد الله حسن بن أحمد بن حبيب الفارسي قالوا حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المفيد الجرجاني قال سمعت أبا عمرو عثمان بن خطاب المعمر المعروف بأبي الدنيا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب (ع) يقول لما نزلت { وتعيها أذن واعية } قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا علي" .
{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } وهي النفخة الأولى عن عطاء والنفخة الأخيرة عن مقاتل والكلبي { وحملت الأرض والجبال } أي رفعت من أماكنها { فدكَّتا دكة واحدة } أي كسرتا كسرة واحدة لا تثنى حتى يستوي ما عليها من شيء مثل الأديم الممدود. وقيل: ضرب بعضها ببعض حتى تفتت الجبال وسفتها الرياح وبقيت الأرض شيئاً واحداً لا جبل فيها ولا رابية بل تكون قطعة مستوية وإنما قال دكَّتا لأنه جعل الأرض جملة واحدة والجبال دكة واحدة.
{ فيومئذ وقعت الواقعة } أي قامت القيامة { وانشقت السماء } أي انفرج بعضها من بعض { فهي يومئذ واهية } أي شديدة الضعف بانتقاض بنيتها. وقيل: هو أن السماء تنشق بعد صلابتها فتصير بمنزلة الصوف في الوهى والضعف.
{ والملك على أرجائها } أي على أطرافها ونواحيها عن الحسن وقتادة والملك اسم يقع على الواحد والجمع والسماء مكان الملائكة فإذا وهت صارت في نواحيها. وقيل: إن الملائكة يومئذٍ على جوانب السماء تنتظر ما يؤمر به في أهل النار من السوق إليها وفي أهل الجنة من التحية والتكرمة فيها { ويحمل عرش ربك فوقهم } يعني فوق الخلائق { يومئذ } يعني يوم القيامة { ثمانية } من الملائكة عن ابن زيد وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيَّدهم بأربعة آخرين فيكونون ثمانية" . وقيل: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى عن ابن عباس.
{ يومئذٍ تعرضون } يعني يوم القيامة تعرضون معاشر المكلفين { لا تخفى منكم خافية } أي نفس خافية أو فعلة خافية. وقيل: الخافية مصدر أي خافية أحد وروي في الخبر عن ابن مسعود وقتادة أن الخلق يعرضون ثلاث عرضات اثنتان فيها معاذير وجدال والثالثة تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله وليس يعرض الله الخلق ليعلم من حالهم ما لم يعلمه فإنه عزَّ اسمه العالم لذاته يعلم جميع ما كان منهم ولكن ليظهر ذلك لخلقه.
ثم قسَّم سبحانه حال المكلفين في ذلك اليوم فقال { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول } لأهل القيامة { هاؤم } أي تعالوا { اقرأوا كتابيه } وإنما يقوله سروراً به لعلمه بأنه ليس فيه إلا الطاعات فلا يستحي أن ينظر فيه غيره وأهل اللغة يقولون أن معنى هاؤم خذوا { إني ظننت } أي علمت وأيقنت في الدنيا { أني ملاق حسابيه } والهاء لنظم رؤوس الآي وهي هاء الاستراحة والمعنى أني كنت مستيقناً في دار الدنيا بأنيّ ألقى حسابي يوم القيامة عالماً بأني أجازي على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب فكنت أعمل بما أصل به إلى هذه المثوبة.
{ فهو في عيشة راضية } أي في حالة من العيش راضية يرضاها بأن لقي الثواب وآمن العقاب { في جنة عالية } أي رفيعة القدر والمكان { قطوفها دانية } أي ثمارها قريبة ممن يتناولها. قال البراء بن عازب: يتناول الرجل من الثمرة وهو نائم وقد ورد في الخبر عن عطاء بن يسار عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يدخل الجنة أحدكم إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية" . وقيل: معناه لا يردّ أيديهم عن ثمرُها بعد ولا شوك عن قتادة.
{ كلوا واشربوا } أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة { هنيئاً لما أسلفتم } أي قدمتم من أعمالكم الصالحة { في الأيام الخالية } الماضية يعني أيام الدنيا ويعني بقوله { هنيئاً } أنه ليس فيه ما يؤذي فلا يحتاج فيه إلى إخراج فصل بغائط أو بول.