التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ
٣٨
وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ
٣٩
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
٤٠
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ
٤١
وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٤٢
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٣
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ
٤٤
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ
٤٥
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ
٤٦
فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
٤٧
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
٤٨
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ
٤٩
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٥٠
وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ
٥١
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٥٢
-الحاقة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وسهل { يؤمنون } ويذكرون بالياء كناية عن الكفار والباقون بالتاء خطاباً لهم وكلاهما حسن.
اللغة: الوتين نياط القلب وإذا انقطع مات الإنسان قال الشماخ بن ضرار:

إذا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي عَرابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الْوَتِينِ

الإعراب: { قليلاً } في الموضعين صفة مصدر محذوف وما مزيدة وتقديره إيماناً قليلاً تؤمنون وتذكراً قليلاً تذكرون ويجوز أن يكون صفة لظرف محذوف أي وقتاً قليلاً تؤمنون ووقتاً قليلاً تذكرون ويجوز أن تكون ما مصدرية ويكون التقدير قليلاً إيمانكم وقليلاً تذكركم ويكون ما في موضع رفع بقليل وقوله { من أحد } في موضع رفع لأنه اسم ما ومن مزيدة لتأكيد النفي تقديره فما منكم أحد والأصل فما أحد منكم فمنكم في موضع رفع بكونه صفة على الموضع أو في موضع جرّ على اللفظ فلما تقدم الموصوف صار في موضع النصب على الحال حاجزين منصوب بأنه خبر ما ولم يبطل قوله منكم عمل ما وإن فصل بينهما لأنه ظرف والفصل بالظرف في هذا الباب كلا فصل.
قال أبو علي: إن جعلت منكم مستقراً كان حاجزين صفة أحد وإن جعلت منكم غير مستقر كان حاجزين خبر ما وعلى الوجهين فقوله حاجزين محمول على المعنى وأقول في بيانه أنه إن كان في منكم ضمير لأحد ويكون خبراً له متقدماً عليه فيكون حاجزين صفة لأحد وتقديره ما منكم قوم حاجزون عنه ويكون ما غير عاملة هنا على غير لغة تميم أيضاً ويكون حاجزين مجروراً حملاً على اللفظ وكونه غير مستقر هو أن يكون على ما ذكرناه قبل.
المعنى: ثم أكدَّ سبحانه ما تقدَّم فقال { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } قيل فيه وجوه أحدها: أن يكون قوله لا ردّاً لكلام المشركين فكأنه قال ليس الأمر كما يقول المشركون أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر ويدخل فيها جميع المكونات { إنه لقول رسول كريم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم عن الفراء وقتادة وثانيها: أن لا مزيدة مؤكَّدة والتقدير فأقسم بما ترون وما لا ترون وثالثها: أنه نفي للقسم ومعناه لا يحتاج إلى القسم لوضوح الأمر في أنه رسول كريم فإنه أظهر من أن يحتاج في إثباته إلى قسم عن أبي مسلم ورابعها: أنه كقول القائل لا والله لا أفعل ذلك ولا والله لأفعلن ذلك وقال الجبائي إنما أراد أنه لا يقسم بالأشياء المخلوقات ما يرى وما لا يرى وإنما أقسم بربها لأن القسم لا يجوز إلا بالله.
{ إنه لقول رسول كريم } قال إنه قول الله على الحقيقة وإنما الملك وجبرائيل والرسول يحكون ذلك وإنما أسنده إليهم من حيث إن ما يسمع منهم كلامهم فلما كان حكاية كلام الله. قيل: هو كلام الله على الحقيقة في العرف قال الجبائي: والرسول الكريم جبرائيل والكريم الجامع لخصال الخير.
{ وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون } قول الشاعر: ما ألفه بوزن وجعله مقفى وله معنى وقول الكاهن السجع وهو كلام متكلف يضم إلى معنى يشاكله طهَّره الله سبحانه من الشعر والكهانة وعصمه عنهما وإنما منعه سبحانه من الشعر ونزَّهه عنه لأن الغالب من حال الشعر أن يدعو إلى الهوى ويبعث على الشهوة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يأتي بالحكم التي يدعو إليها العقل للحاجة إلى العمل عليها والاهتداء بها وأيضاً فإنه سبحانه منعه من قول الشعر دلالة على أن القرآن ليس بصفة الكلام المعتاد بين الناس وأنه ليس بشعر بل هو صنف من الكلام خارج عن الأنواع المعتادة وإذا بعد عما جرت به العادة في تأليف الكلام فذلك أدل على إعجازه وقوله { قليلاً ما تؤمنون } معناه لا تصدقون بأن القرآن من عند الله تعالى يريد بالقليل نفي إيمانهم أصلاً كما تقول لمن لا يزورك قل ما تأتينا وأنت تريد لا تأتينا أصلاً فالمعنى لا تؤمنون به ولا تتذكرون ولا تتفكرون فتعلموا المعجز وتفصلوا بينه وبين الشعر والكهانة.
{ تنزيل من رب العالمين } بيَّن أنه منزل من عنده على لسان جبرائيل حتى لا يتوهم أنه كلام جبرائيل { ولو تقول علينا } محمد صلى الله عليه وسلم { بعض الأقاويل } معناه ولو كذب علينا واختلق ما لم نقله أي لو تكلف القول وأتى به من عند نفسه.
{ لأخذنا منه باليمين } أي لأخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الإذلال كما يقول السلطان يا غلام خذ بيده فأخذها إهانة عن ابن جرير. وقيل: معناه لقطعنا يده اليمنى عن الحسن وأبي مسلم فعلى هذا تكون الباء مزيدة أي لأخذنا منه اليمين. وقيل: معناه لأخذنا منه بالقوة والقدرة أي لأخذناه ونحن قادرون عليه مالكون له عن الفراء والمبرد والزجاج وإنما أقام اليمين مقام القوة والقدرة لأن قوة كل شيء في ميامنه عن ابن قتيبة.
{ ثم لقطعنا منه الوتين } أي ولكنا نقطع منه وتينه ونهلكه قال مجاهد وقتادة هو عرق في القلب متصل بالظهر. وقيل: هو حبل القلب { فما منكم من أحد عنه حاجزين } أي فما منكم أحد يحجزنا عنه والمعنى أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاتبناه ثم لم تقدروا أنتم على دفع عقوبتنا عنه.
ثم ذكر سبحانه أن القرآن ما هو فقال { وإنه لتذكرة للمتقين } أي وإنه لعظة لمن اتقى عقاب الله بطاعته { وإنا لنعلم أن منكم مكذّبين } بالقرآن أي علمنا أن بعضكم يكذبه أشار سبحانه إلى أن منهم من يصدق ومنهم من يكذب { وإنه لحسرة على الكافرين } أي أن هذا القرآن حسرة عليهم يوم القيامة حيث لم يعملوا به في الدنيا.
{ وإنه لحق اليقين } معناه وإن القرآن للمتقين لحق اليقين والحق هو اليقين وإنما أضافة إلى نفسه كما يقال مسجد الجامع ودار الآخرة وبارحة الأولى ويوم الخميس وما أشبه ذلك فيضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظه. وقيل: إن الحق هو الذي معتقده على ما اعتقد واليقين هو الذي لا شبهة فيه.
{ فسبّح باسم ربك العظيم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع المكلفين ومعناه نزّه الله سبحانه عما لا يجوز عليه من الصفات والعظيم هو الجليل الذي يصغر شأن غيره في شأنه ويتضاءل كل شيء لعظمته وسلطانه.