التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٥٧
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع والباقون أصرهم على التوحيد.
الحجة: قال أبو علي الأَصر: مصدر يقع على الكثير مع إفراد لفظه يدلُّ على ذلك قولـه أصرهم فأضيف وهو مفرد إلى الكثرة ولا يجمع وقال
{ { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } [البقرة: 286] وقال { { ينظرون من طرف خفي } [الشورى: 45] { { ولا يرتد إليهم طرفهم } } [إبراهيم: 43] فالوجه الإِفراد كما أفرد في غير هذا الموضع وجمعه ابن عامر كأنه أراد ضروباً من المآثم مختلفة فجمع لاختلافها والمصادر تجمع إذا اختلف ضروبها وإذا كانوا قد جمعوا ما يكون ضرباً واحداً كقولـه:

هـَلْ مِنْ حُلُومٍ لأَقْوامٍ فَيُنْذِرَهُـــم ما جَرَّبَ النَّاس مِنْ عَضّي وتَضْريسي

فإن يجمع ما يختلف من المآثم أجدر ويقوي ذلك قولـه { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [العنكبوت: 13] والثقل مصدر كالشبع والصغر والكبر.
اللغة: قال الزجاج: اختلف أهل اللغة في معنى قولـه عزَّروه وفي قولـهم عزرت فلاناً أعزره وأعزره عزراً فقيل معناه رددته. وقيل: معناه أعنته. وقيل: معناه لمته ويقال عزَّرته بالتشديد نصرته ويقال منعت منه فمعنى عزَّروه منعوا أعداءه من الكفر به. وقيل: نصروه والمعنى قريب لأَن منع الأَعداء منه نصرته ومعنى عزّرت فلاناً إذا ضربته ضرباً دون الحد أنه يمنعه بضربه إياه من معاودته مثل عمله ويجوز أن يكون من عزرته أي رددته معناه فعلت به ما يردُّه عن المعصية.
الإِعراب: قال الزجاج: قولـه يأمرهم بالمعروف يجوز أن يكون على تقدير يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرهم بالمعروف ويجوز أن يكون يأمرهم بالمعروف مستأنفاً قال أبو علي: لا وجه لقولـه يجدونه مكتوباً أنه يأمرهم إن كان يعني أن ذلك مراد لأَنه لا شيء يدلُّ على حذفه ولأَنا لم نعلمهم حذفوا هذا في شيء وتفسيره أن وجدت هنا هو المتعدي إلى مفعولين ومكتوباً مفعول ثان والمعنى يجدون ذكره مكتوباً عندهم في التوراة أو اسمه فالمفعول الأَول قام مقام المضاف إليه وإنما قلنا ذلك لأَن المكتوب هو الاسم أو الذكر والمفعول الثاني في هذا الباب يجب أن يكون الأَول في المعنى.
قال فأما قولـه يأمرهم بالمعروف فهو عندي تفسير لما كتب كما أن قولـه لهم مغفرة وأجر عظيم تفسير لوعدهم وكما أن قولـه { خلقه من تراب } تفسير للمثل فإن قلت لم لا تجعله حالاً من المفعول الأَول فلأَن ذلك ممتنع في المعنى ألا ترى أن المعنى إذا كان يجدون ذكره أو اسمه مكتوباً لم يجز أن يكون يأمرهم حالاً منه لأَن الاسم والذكر لا يأمران إنما يأمر المذكور والمسمى ولا يجوز أن يكون مما في مكتوب من الضمير لأَن الضمير هو المفعول الأَول في المعنى.
المعنى: ثم وصف سبحانه الذين يتقون بصفة أخرى فقال { الذين يتبعون الرسول النبي } أي يؤمنون به ويعتقدون بنبوته يعني نبينا محمد صلى الله عليه وسلم { الأُمّي } ذكر في معناه أقوال:
أحدها: أنه الذي لا يكتب ولا يقرأ وثانيها: أنه منسوب إلى الأُمة والمعنى أنه على جبلة الأُمة قبل استفادة الكتابة. وقيل: إن المراد بالأُمة العرب لأَنها لم تكن تحسن الكتابة وثالثها: أنه منسوب إلى الأُم والمعنى أنه على ما ولدته أمه قبل تعلُّمِ الكتابة ورابعها: أنه منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (ع).
{ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل } معناه يجدون نعتة وصفته ونبوته مكتوباً في الكتابين لأَنه مكتوب في التوراة في السفر الخامس إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيه به وفيها أيضاً مكتوب وأما ابن الأُمة فقد باركت عليه جداً جداً وسيلد اثني عشر عظيماً وأؤخّره لأُمة عظيمة وفيها أيضاً أتانا الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران وفي الإِنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع منها نعطيكم فارقليط آخر يكون معكم آخر الدهر كله وفيه أيضاً قول المسيح للحواريين أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه أنه نذيركم بجميع الحق ويخبركم بالأُمور المزمعة ويمدحني ويشهد لي وفيه أيضاً أنه إذا جاء فنَّد أهلَ العالم.
{ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } يجوز أن يكون هذا مكتوباً في التوراة والإِنجيل ويكون موصولاً بما قبله وبياناً لمن يكتب له رحمة الولاية والمحبة ويجوز أن يكون ابتداء من قول الله تعالى مدحاً للنبي صلى الله عليه وسلم والمعروف الحق والمنكر الباطل لأَن الحق معروف الصحة في العقول والباطل منكر الصحة في العقول. وقيل: المعروف مكارم الأَخلاق وصلة الأَرحام والمنكر عبادة الأَوثان وقطع الأَرحام عن ابن عباس وهذا القول داخل في القول الأَول.
{ ويحلُّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث } معناه يبيح لهم المستلذات الحسنة ويحرِّم عليهم القبائح وما تعافه الأَنفس. وقيل: يحلُّ لهم ما اكتسبوه من وجه طيب ويحرّم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث. وقيل: يحلُّ لهم ما حرَّمه عليهم رَهابِينهُم وأحبارهم وما كان يحرّمه أهل الجاهلية من البحائر والسوائب وغيرها ويحرِم عليهم الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر معها { ويضع عنهم إصرهم } أي ثقلهم شبَّه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل وذلك أن الله سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً وجعل توبة هذه الأُمة الندم بالقلب حرمة للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن. وقيل: الإِصر هو العهد الذي كان سبحانه أخذه على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة عن ابن عباس والضحاك والسدي ويجمع المعنيين قول الزجاج الإِصر ما عقدته من عقد ثقيل.
{ والأَغلال التي كانت عليهم } معناه ويضع عنهم العهود التي كانت في ذمتهم وجعل تلك العهود بمنزلة الأَغلال التي تكون في الأَعناق للزومها كما يقال هذا طوق في عنقك. وقيل: يريد بالأَغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة وقرض ما يصيبه البول من أجسادهم وما أشبه ذلك من تحريم السبت وتحريم العروق والشحوم وقطع الأَعضاء الخاطئة ووجوب القصاص دون الدية عن أكثر المفسرين.
{ فالذين آمنوا به } أي بهذا النبي وصدَّقوه في نبوته { وعزَّروه } أي عظَّموه ووقَّروه ومنعوا عنه أعداءه { ونصروه } عليهم { واتبعوا النور } معناه القرآن الذي هو نور في القلوب كما أن الضياء نور في العيون ويهتدي به الخلق في أمور الدين كما يهتدون بالنور في أمور الدنيا { الذي أنزل معه } أي أنزل عليه وقد يقوم مع مقام على كما يقوم على مقام مع. وقيل: معناه أنزل في زمانه وعلى عهده ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأَصحابه:
"أيُّ الخلق أعجب إيماناً قالوا: الملائكة فقال: الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون قالوا فالنبيون قال النبيون يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون قالوا فنحن يا نبي الله قال أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون إنما هم قوم يكونون بعدكم يجدون كتاباً في ورق فيؤمنون به فهو معنى قولـه { واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }" أي الظافرون بالمراد الناجون من العقاب الفائزون بالثواب.