التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير وأهل الكوفة ذريتهم على التوحيد والباقون ذرياتهم على الجمع وقرأ أبو عمرو أن يقولوا أو يقولوا بالياء والباقون بالتاء.
الحجة: قال أبو علي: الذرية قد يكون جمعاً وقد يكون واحداً فمما جاء فيه جمعاً قولـه
{ { وكنا ذرية من بعدهم } [الأعراف: 173] و { { ذرية من حملنا مع نوح } [الإسراء: 3] فمن أفرد جعله جمعاً فاستغنى عن جمعه لوقوعه على الجمع ومما جاء فيه واحداً قولـه { { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [آل عمران: 38] ثم قال { إن الله يبشّرك بيحيى } [آل عمران: 39] وهذا مثل قولـه رب { فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب } [مريم: 5 - 6] وأما قراءة أبي عمرو أن يقولوا بالياء فلأن الذي تقدَّم من الكلام على الغيبة ومن قرأ بالتاء فلأنه جرى في الكلام خطاب أيضاً فقال { ألست بربكم } وكلا الوجهين حسن لأن الغُيَّب هم المخاطبون في المعنى.
الإعراب: من ظهورهم بدل من قولـه من بني آدم والمعنى أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم وقد ذكرنا الذرية وما قيل في تقدير وزنها واشتقاقها فيما تقدم وقولـه { أن تقولوا } تقديره كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا وقد مضى الكلام في أمثاله.
المعنى: ثم ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولـهم عقيب ما ذكره من المواثيق التي في الكتب جمعاً بين دلائل السمع والعقل وإبلاغاً في إقامة الحجة فقال: { وإذ أخذ ربك } أي واذكر لهم يا محمد إذ أخرج ربك: { من بني آدم من ظهورهم } أي من ظهور بني آدم: { ذريتهم وأَشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } إختلف العلماء من العام والخاص في معنى هذه الآية وفي هذا الإخراج والإشهاد على وجوه:
أحدها: أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر فعرضهم على آدم وقال: إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً وعليَّ أرزاقهم ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك ربنا فقال للملائكة: أشهدوا فقالوا شهدنا. وقيل: إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه ويفهمونه ثم ردَّهم إلى صلب آدم والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى ومن كفر وجحد فقد تغير عن الفطرة الأول عن جماعة من المفسرين ورووا في ذلك آثاراً بعضها مرفوعة وبعضها موقوفة ويجعلونها تأويلاً للآية وردَّ المحققون هذا التأويل وقالوا: إنه مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه لأنه تعالى قال وإذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل من آدم وقال من ظهوركم ولم يقل من ظهره وقال ذريتهم ولم يقل ذريته.
ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم وأنهم نشؤوا على دينهم وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه وأيضاً فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم لا يخلو إما إن جعلهم الله عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد وأن يفهموا خطاب الله تعالى وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق فيجب أن يتذكروا ذلك ولا ينسوه لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه إلا أن يكون ذاكراً له فيجب أن نذكر نحن الميثاق ولأنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء شيئاً كانوا عرفوه وميَّزوه حتى لا يذكره واحد منهم وإن طال العهد ألا ترى أن أهل الآخرة يعرفون كثيراً من أحوال الدنيا حتى يقول أهل الجنة لأهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ولو جاز أن ينسوا ذلك مع هذه الكثرة لجاز أن يكون الله تعالى قد كلَّف الخلق فيما مضى ثم أعادهم إما ليثيبهم وإما ليعاقبهم ونسوا ذلك وذلك يؤدي إلى التجاهل وإلى صحة مذهب التناسخية.
وحكي عن علي بن عيسى عن أبي بكر بن الإخشيد أنه جوَّز أن يكون خبر الذر صحيحاً غير أنه قال ليس تأويل الآية على ذلك ويكون فائدته أنه إنما فعل ذلك ليجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة والإقرار لله تعالى بالربوبية كما روي أنهم ولدوا على الفطرة وحكى أبو الهذيل في كتاب الحجة أن الحسن البصري وأصحابه كانوا يذهبون إلى أن نعيم الأطفال في الجنة ثواب عن الإيمان في الذر.
وثانيها: أن المراد بالآية أن الله سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ثم رقاهم درجة بعد درجة وعلقة ثم مضغه ثم أنشأ كلاً منهم بشراً سوياً ثم حيّاً مكلفاً وأراهم آثار صنعه ومكَّنهم من معرفة دلائله حتى كأنه أشهدهم وقال لهم ألست بربكم فقالوا بلي هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم دلَّهم بخلقه على توحيده وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولـهم من الأدلة الدالة على وحدانيته وركب فيهم من عجائب خلقه وغرائب صنعته وفي غيرهم فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم فكانوا في مشاهدة ذلك وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله وتعذر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقرّ وإن لم يكن هناك إشهاد صورة وحقيقة ونظير ذلك قولـه تعالى
{ { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } } [فصلت: 11] وإن لم يكن منه سبحانه قول ولا منهما جواب ومثله قولـه تعالى { شاهدين على أنفسهم بالكفر } [التوبة: 17] ومعلوم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم لكنه لما ظهر منهم ظهوراً لا يتمكنون من دفعه فكأنهم اعترفوا به ومثله في الشعر:

وَقالَتْ لَهُ العَيْنانِ سَمْعاً وَطاعَةً وَحَدَّرَتـــا كَالــــدُّرِ لَمَّــا يُثقَّبِ

وكما يقول القائل جوارحي تشهد بنعمتك وكما روي عن بعض الخطباء من قولـه سل الأرض مَنْ شَقَّ أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً ومثله كثير في كلام العرب وأشعارهم ونظمهم ونثرهم وهو قول الرماني وأبي مسلم وابن الإخشيد.
وثالثها: أنه تعالى إنما عنى بذلك جماعة من ذرية آدم خلقهم وأكمل عقولـهم وقرَّرهم على ألسن رسله (ع) بمعرفته وبما يجب من طاعته فأقرّوا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل فقلَّدناهم في ذلك فنبَّه سبحانه على أنه لا يعاقب من له عذر رحمة منه لخلقه وكرماً وهذا يكون في قوم خاص من بني آدم ولا يدخل جميعهم فيه لأن المؤمن لا يدخل فيه لأنه بيَّن أن هؤلاء المأخوذ ميثاقهم كان لهم سلف في الشرك ولأن ولد آدم لصلبه لم يؤخذوا من ظهور بني آدم فقد خرجوا من ذلك وهذا اختيار الجبائي والقاضي.
وقولـه { شهدنا } حكاية عن قول الملائكة أنهم يقولون ذلك أي شهدنا لئلا تقولوا ذكره الأزهري عن بعضهم وقال إن قولـه قالوا بلى تمام الكلام وهذا خلاف الظاهر وما عليه المفسرون لأن الكل قالوا شهدنا مِنْ قول مَنْ قال بلى وإن اختلفوا في كيفية الشهادة على أن الملائكة لم يجر لها ذكر في الآية فيبعد أن يكون إخباراً عنهم { أن تقولوا يوم القيامة } معناه لئلا يقولوا إذا صاروا إلى العذاب يوم القيامة.
{ إنا كنا عن هذا غافلين } لم نتنبَّه عليه ولم تقم لنا حجة به ولم تكمل عقولنا فنفكر فيه: { أو تقولوا } أي أو يقول قوم منهم: { إنما أشرك آباؤنا من قبل } حين بلغوا وعقلوا: { وكنا ذرية من بعدهم } أي أطفالاً لا نعقل ولا نصلح للفكرة والنظر والتدبر وعلى التأويل الأخير فمعناه أني إنما قررتكم بهذا لتواظبوا على طاعتي وتشكروا نعمتي ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا غافلين عما أخذ الله من الميثاق على لسان الأنبياء وتقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل فنشؤونا على شركهم احتجاجاً بالتقليد وتعويلاً عليه أي فقد قطعت حجتكم هذه بما قررتكم به من معرفتي وأشهدتكم على أنفسكم بإقراركم بمعرفتكم إياي { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } ومعناه ولأن لا تقولوا أفتهلكنا لما فعل آباؤنا من الشرك وتقديره أنا لا نهلككم بما فعلوه وإنما نهلككم بفعلكم أنتم: { وكذلك نفصل الآيات } معناه أنا كما بيَّنا لكم هذه الآيات كذلك نفصِّلها للعباد ونبيِّنها لهم وتفصيل الآيات تمييزها ليتمكن من الاستدلال بكل واحدة منها { ولعلهم يرجعون } أي ليرجعوا إلى الحق من الباطل.