التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٨٩
فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٩٠
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
١٩١
وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ
١٩٢
وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَٰمِتُونَ
١٩٣
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة وأبو بكر شِركاً بكسر الشين والتنوين على المصدر لا على الجمع وهو قراءة الأعرج وعكرمة والباقون شركاء بضم الشين والمد على الجمع وروي في الشواذ قراءة يحيى بن يعمر فمرَت به خفيفة وقرأ نافع لا يتبعوكم وفي الشعراء يتبعهم بالتخفيف والباقون يتبعوكم بالتشديد.
الحجة: من قرأ شِركاً فإنه حذف المضاف وتقديره جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك فالقراءتان على هذا يؤولان إلى معنى واحد فإن معنى جعلا له شركاء جعلا له ذوي شرك والضمير في له يعود إلى اسم الله ومن قرأ فمرت به خفيفة فإنه ينبغي أن يكون أصله التشديد كقراءة الجماعة إلا أنه حذفه تخفيفاً لثقل التضعيف قالوا مَسْتُ يده أي مسستها وقال أبو زبيد:

خَــلا إنَّ العِتاقَ مِنَ المَطايا أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ

أي أحسسن به. وقيل: إنه من المرية أي شكَّت أحملت أم لا وعن الحسن شكَّت أغلام أم جارية وروي أن عبد الله بن عمر قرأ فمارت به وهو من قولـهم مار يمور إذا ذهب وجاء وقرأ ابن عباس فاستمرّت به ومعناه مرت له مكلفة نفسها ذلك لأن استفعل يأتي في أكثر الأمر بمعنى الطلب ومن قرأ لا يتبعوكم فإنه في المعنى مثل القراءة الأخرى قال أبو زيد: رأيت القوم فاتبعتهم اتْباعاً أي ذهبت معهم واتبعتهم اتِّباعاً إذا سبقوك فأسرعت نحوهم وتبعتهم مثل اتبعتهم في المعنى اتبعهم تبعاً.
المعنى: لمّا تقدَّم ذكر الله تعالى ذكر عقيبه ما يدلُّ على وحدانيته فقال { هو الذي خلقكم } والخطاب لبني آدم { من نفس واحدة } يعني آدم (ع) { وجعل } أي وخلق { منها زوجها } يعني حواء { ليسكن } آدم { إليها } ويأنس بها { فلما تغشاها } أي فلما أصابها كما يصيب الرجل زوجته يعني وطأها وجامعها { حملت حملاً خفيفاً } وهو الماء الذي حصل في رحمها وكان خفيفاً { فمرت به } أي استمرت بالحمل على الخفة تقوم وتقعد وتجيء وتذهب كما كانت من قبل لم يمنعها ذلك الحمل عن شيء من التصرف.
{ فلما أثقلت } أي صارت ذات ثقل كما يقال أثمرت الشجرة صارت ذات ثمر. وقيل: معناه دخلت في الثقل كما يقال أصاف دخل في الصيف وأشتى دخل في الشتاء والمعنى لما كبر الحمل في بطنها وتحرك وصارت ثقيلة به.
{ دعوا الله ربهما } يعني آدم وحواء سألا الله تعالى عند كبر الولد في بطنها { لئن آتيتنا صالحاً } أي أعطيتنا ولداً صالحاً عن أبي مسلم. وقيل: نسلاً صالحاً أي معافى سليماً صحيح الخلقة عن الجبائي. وقيل: بشراً سوياً عن ابن عباس. وقيل: غلاماً ذكراً عن الحسن { لنكونن من الشاكرين } لنعمتك علينا قال الجبائي: وإنما قالا ذلك لأنهما أرادا أن يكون لهما أولاد يؤنسونهما في الموضع الذي كانا فيه لأنهما كانا فردين مستوحشين وكان إذا غاب أحدهما عن الآخر بقي الآخر مستوحشاً بلا مؤنس ويحتمل أيضاً أن يكون أراد بقولـه صالحاً مطيعاً فاعلاً للخير مصلحاً غير مفسد.
{ فلما آتاهما } الله { صالحاً } كما التمساه { جعلا له شركاء فيما آتاهما } اختلف في من يرجع الضمير الذي في جعلا إليه على وجوه:
أحدها: أنه يرجع إلى النسل الصالح أي المعافى في الخلق والبدن لا في الدين وإنما ثَنّى لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى يعني أن هذا النسل الذين هم ذكر وأنثى جعلا له شركاء فيما أعطاهما من النعمة فأضافا تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله تعالى من الأصنام والأوثان عن الجبائي.
وثانيها: أنه يرجع إلى النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عن الحسن وقتادة وهو قول الأصم قال ويكون المعنى في قولـه
{ خلقكم من نفس واحدة } [الأعراف: 189] خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ولكل نفس زوج هو منها أي من جنسها كما قال سبحانه { { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها } [الروم: 21] فلما تغشى كل نفس زوجها { حملت حملاً خفيفاً } وهو ماء الفحل { فلما أثقلت } بمصير ذلك الماء لحماً ودماً وعظماً دعا الرجل والمرأة { ربهما لئن آتيتنا صالحاً } أي ذكراً سوياً { لنكونن من الشاكرين } وكانت عادتهم أن يئدوا البنات.
فلما آتاهما يعني الأب والأم { صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما } لأنهم كانوا يسمون عبد العزى وعبد اللات وعبد منات ثم رجعت الكناية إلى جميعهم في قولـه { فتعالى الله عما يشركون } فالكناية في جميع ذلك غير متعلقة بآدم وحواء ولو كانت متعلقة بهما لقال عما يشركان وقال أبو مسلم: تقدير الآية هو الذي خلقكم والخطاب لجميع الخلق من نفس واحدة يعني آدم وجعل من ذلك النفس زوجها وهي حواء ثم انقضى حديث آدم وحواء وخصَّ بالذكر المشركين من أولاد آدم الذين سألوا ما سألوا وجعلوا له شركاء فيما آتاهم قال ويجوز أن يذكر العموم ثم يخصُّ البعض بالذكر ومثله كثير في الكلام قال الله تعالى
{ هو الذي يسيركم في البر والبحر } [يونس: 22] { { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } [يوسف: 22] فخاطب الجماعة بالتسيير ثم خصَّ راكب البحر بالذكر وكذلك هذه الآية أخبرت عن جملة البشر بأنهم مخلوقون من آدم وحواء.
ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ادَّعى له شركاء في عطيته قال وجائز أن يكون عنى بقولـه هو الذي خلقكم من نفس واحدة المشركين خصوصاً إذا كان كل واحد من بني آدم مخلوقاً من نفس واحدة وزوجها وذكر قريباً من قول الأصم قال وقد يجيء مثله في التنزيل وغيره قال سبحانه
{ { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } [النور: 4] والمعنى فاجلدوا كل واحد منهم..
وثالثها: أن الضمير يرجع إلى آدم وحواء عليهما السلام ويكون التقدير في قولـه { جعلا له شركاء } جعل أولادهما له شركاء فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار جعلا وهذا مثل قولـه سبحانه
{ اتخذتم العجل } [البقرة: 51] { وإذ قتلتم نفساً } [البقرة: 72] والتقدير وإذ قتل أسلافكم نفساً واتَّخذ أسلافكم العجل فحذف المضاف وعلى هذا الوجه تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحواء ويقوّيه قولـه سبحانه { فتعالى الله عما يشركون }
ورابعها: ما روت العامة أنه يرجع إلى آدم وحواء وأنهما جعلا لله شريكاً في التسمية وذلك أنهما أقاما زماناً لا يولد لهما فمرَّ بهما إبليس ولم يعرفاه فشكوا إليه فقال لهما إن أصلحتُ حالكما حتى يولد لكما ولد أتسمّيانه باسمي قالا نعم وما اسمك قال الحرث: فولد لهم فسمياه عبد الحرث ذكره ابن فضال. وقيل: إن حواء حملت أول ما حملت فأتاها إبليس في غير صورته فقال لها يا حواء يا حواء ما يؤمنك أن تكون في بطنك بهيمة فقالت لآدم لقد أتاني آت فأخبرني أن الذي في بطني بهيمة وإني لأجد له ثقلاً فلم يزالا في همٍّ من ذلك ثم أتاها فقال إن سألتُ الله أن يجعله خلقاً سوياً مثلك ويسهّل عليك خروجه أتسميه عبد الحرث ولم يزل بها حتى غرَّها فسمته عبد الحرث برضاء آدم وكان اسم إبليس عند الملائكة الحارث.
وهذا الوجه بعيد تأباه العقول وتنكره فإن البراهين الساطعة التي لا يصحّ فيها الاحتمال ولا يتطرق إليها المجاز والاتساع قد دلَّت على عصمة الأنبياء عليهم السلام فلا يجوز عليهم الشرك والمعاصي وطاعة الشيطان فلو لم نعلم تأويل الآية لعلمنا على الجملة أن لها وجهاً يطابق دلالة العقل فكيف وقد ذكرنا الوجوه الصحيحة الواضحة في ذلك على أن الرواية الواردة في ذلك قد طعن العلماء في سندها بما هو مذكور في مواضعه ولا نحتاج إلى إثباته فإن الآية تقتضي أنهم أشركوا الأصنام التي تخلق ولا تخلق لقولـه.
{ أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } وفي خبرهم أنهما أشركا إبليس اللعين فيما ولد لهما بأن سمّوه عبد الحرث وليس في ظاهر الآية لإبليس ذكر وحكى البلخي عن جماعة من العلماء أنهم قالوا لو صحَّ الخبر لم يكن في ذلك إلا إشراكاً في التسمية وليس ذلك بكفر ولا معصية واختاره الطبري وروى العياشي في تفسيره عنهم (ع) أنه كان شركهما شرك طاعة ولم يكن شرك عبادة.
وقولـه { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى جماداً لا يخلق شيئاً من الأجسام ولا ما يستحقُّ به العبادة وهم مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم وإن خرج الكلام مخرج الاستفهام ولفظة ما إنما تستعمل فيما لا يعقل فدلَّ ذلك على أن المراد بقولـه جعلا له شركاء أنهم أشركوا الأصنام مع الله تعالى لا ما ذكروه من إشراك إبليس وإنما قال وهم يخلقون على لفظ العقلاء وإن كانت الأصنام جماداً لأنه أراد به الأصنام والعابدين لها جميعاً فغلب ما يعقل على ما لا يعقل ويجوز أن يكون على أنهم يعظمُونها تعظيم من يعقل ويصوّرونها على صورة من يعقل فكنّى عنهم كما يكنّى عن العقلاء كقولـه
{ { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [يوسف: 4].
{ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون } أي ويشركون به ويعبدون من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضرّ ومن هذه صورته فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً معبوداً.
{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتّبعوكم } قيل معناه وإن دعوتم الأصنام التي عبدوها إلى الهدى فإنها لا تقبل الهدى عن أبي علي الجبائي بيَّن بذلك ضعف أمرها بأنها لا تهدي غيرها ولا تهتدي بأنفسها وإن دعيت إلى الهدى. وقيل: معناه إن دعوتم المشركين الذين أصرُّوا على الكفر إلى دين الحق لم يؤمنوا وهو نظير قولـه
{ { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] عن الحسن.
{ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } أي سواء عليكم دعاؤهم والسكوت عنهم وإنما قال أم أنتم صامتون ولم يقل أم صمتم فيكون في مقابل ادعوتموهم ليفيد الماضي والحال فإن المقابلة كانت تدل على الماضي فحسب وصورة اللفظ تدل على معنى الحال ومثل قول الشاعر:

سَواءٌ عَلَيْكَ الفَقْرُ أمْ بِتَّ لَيْلَةً بِأَهْلِ القُبابِ مِنْ نَمِيرِ بنِ عامِرِ