التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٤٢
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٤٣
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر ما كنا لنهتدي بغير واو وكذلك في مصاحف أهل الشام والباقون مع الواو وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أورثتموها مدغمة وكذلك في الزخرف وقرأ الباقون أورثتموها غير مدغمة.
الحجة: قال أبو علي: وجه الاستغناء عن حرف العطف أن الجملة ملتبسة بما قبلها فأغنى التباسها به عن حرف العطف وقد تقدّم ذكر أمثاله ومن ترك الإدغام في أورثتموها فلتباين المخرجين وكأن الحرفين في حكم الانفصال وإن كانا من كلمة واحدة ألا ترى أنهم لم يدغموا ولو شاء الله ما اقتتلوا وإن كانا مثلين لما لم يكونا لازمين ألا ترى أن تاء افتعل قد يقع بعدها غير التاء فكذلك أورث قد يقع بعد الثاء منها غير الثاء فلا يجب الإدغام ووجه الإدغام أن الثاء والتاء مهموستان متقاربتان فاستحسن الإدغام لذلك.
اللغة: الغلُّ الحقد الذي ينغل بلطفه إلى صميم القلب ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة ومنه الغُلُّ الذي يجمع اليدين والعنق بانغلاله فيهما والصدر ما يصدر من جهته التدبير والرأي. ومنه قيل للرئيس صدر والجريان انحدار المائع فالماء يجري والدم يجري وكل ما يصحُّ أن يجري فهو مائع والنهر الواسع من مجاري الماء ومنه النهار لاتساع ضيائه والنداء والدعاء بطريقة يا فلان.
الإعراب: { لا نكلف نفساً إلا وسعها } جملة في موضع رفع بأنه خبر الذين آمنوا وحذف العائد إلى المبتدأ فكأنه قيل منهم لا من غيرهم نحو قولـهم السمن منوان بدرهم أي منوان منه ويجوز أن يكون اعتراضاً ما بين المبتدأ والخبر ويكون الخبر الجملة التي هي أولئك أصحاب الجنة وإذا كان اعتراضاً فلا موضع له من الإعراب وأن تلكم الجنة يجوز أن يكون أنْ بمعنى أي لتفسير النداء فيكون المعنى نودوا على وجه التهنئة بكلام هذا معناه ويجوز أن يكون مخففة من الثقيلة والهاء مضمرة والتقدير بأنه تلكم الجنة قال الشاعر:

أَكاشِــــرُهُ وَأَعْلَــمُ أنْ كِلانــا عَلى ما ساء صاحِبُهُ حَرِيصُ

المعنى: لمَّا تقدَّم وعيد الكفار بالخلود في النيران أتبع ذلك بالوعد للمؤمنين بالخلود في الجنان فقال: { والذين آمنوا } أي صدَّقوا بآيات الله واعترفوا بها ولم يستكبروا عنها { وعملوا الصالحات } أي ما أوجبه الله عليهم أو ندبهم إليه { لا نكلف نفساً إلا وسعها } التكليف من الله سبحانه هو إرادة ما فيه المشقة من الكلفة التي هي المشقة أي لا نلزم نفساً إلا قدر طاقتها وما دونها لأن الوسع دون الطاقة ووجه اتصاله بما قبله بيِّن إذا جعلته خبراً لأن معناه لا نكلف أحداً منهم من الطاعات إلا ما يقدر عليه وإذا كان اعتراضاً بين الكلامين فكأنَّه لمَّا وعد المؤمنين بالجنان والكافرين بالنيران بَيَّن أنه لا يكلف أحداً منهم إلا ما في وسعه وأن من استحق النار فمن نفسه أتى.
{ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } مقيمون { ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ } أي وأخرجنا ما في قلوبهم من حقد وحسد وعداوة في الجنة حتى لا يحسد بعضهم بعضاً وإن رآه أرفع درجة منه { تجري من تحتهم الأنهار } قيل: إنه في موضع الحال أي يجري ماء الأنهار من تحت أبنيتهم وأشجارهم في حال نزعنا الغل من صدورهم. وقيل: هو استئناف.
{ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي هدانا للعمل الذي استوجبنا به هذا الثواب بأن دلَّنا عليه وعرَّضنا له بتكليفه إيانا. وقيل: معناه هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا. وقيل: لنزع الغل من صدورنا. وقيل: هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة: { وما كنا لنهتدي } لما يصيّرنا إلى هذا النعيم المقيم والثواب العظيم: { لولا أن هدانا الله } هذا اعتراف من أهل الجنة بنعمة الله سبحانه إليهم ومنته عليهم في دخول الجنة على سبيل الشكر والتلذذ بذلك لأنه لا تكليف هناك.
{ لقد جاءت رسل ربنا بالحق } وهذا إقرار منهم بأن ما جاءت به الرسل إليهم من جهة الله تعالى فهو حق لا شبهة في صحته { ونودوا } أي ويناديهم مناد من جهة الله تعالى ويجوز أن يكون ذلك خطاباً منه سبحانه لهم { أن تلكم الجنة } أي هذه الجنة وإنما قال { تلكم } لأنهم وعدوا بها في الدنيا فكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها ويجوز أن يكونوا عاينوها فيقال لهم قبل أن يدخلوها إشارة إليها تلكم الجنة: { أورثتموها } أي أُعطيتموها إرثاً وصارت إليكم كما يصير الميراث لأهله. وقيل: معناه جعلها الله سبحانه بدلاً لكم كما كان أعدَّه للكفار لو آمنوا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزلـه من الجنة" فذلك قولـه { أورثتموها } { بما كنتم تعملون } أي توحّدون الله وتقومون بفرائضه.