التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٥٤
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب يُغشّي بالتشديد وكذلك في الرعد والباقون بالتخفيف وقرأ ابن عامر والشمس والقمر والنجوم مسخرات كله بالرفع والباقون بالنصب.
الحجة: قال أبو علي: غشى فعل متعد إلى مفعول واحد فإذا نقلته بالهمزة أو بتضعيف العين تعدى إلى مفعولين وقد جاء التنزيل بالأمرين قال فَغشّاها ما غشى فما في موضع نصب بأنه المفعول الثاني وقال
{ { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } [يس: 9] فهذا منقول بالهمزة والمفعول الثاني محذوف والمعنى فأغشيناهم العمى أو فقد الرؤية عنهم فإذا جاء التنزيل بالأمرين فكلا الفريقين قرأ بما جاء في التنزيل وقولـه { يغشي الليل } والنهار كل واحد من الليل والنهار منتصب بأنه مفعول به والفعل قبل النقل غشي الليل والنهار ولم يقل يغشي النهار الليل كما قال { سرابيل تقيكم الحر } [النحل: 81] ولم يقل تقيكم البرد للعلم بذلك من الفحوى ومثل هذا لا يضيق وحجة من نصب الشمس والقمر والنجوم له حمله على خلق كما قال { { واسجدوا لله الذي خلقهن } [فصلت: 37] وحجة ابن عامر قولـه { { وسخر لكم ما في السماوات والأرض } [لقمان: 20] وممّا في السماء الشمسُ والقمرُ فإذا أخبر بتسخيرها حسن الإخبار عنهما به كما أنك إذا قلت ضربت زيداً استقام أن تقول زيد مضروب.
اللغة: قد بيَّنا معنى الاستواء في سورة البقرة عند قولـه { ثم استوى } إلى السماء والعرش السرير ومنه ولها عرش عظيم والعرش المُلك يقال ثُلّ عرشُه والعرش السقف ومنه قولـه
{ فهي خاوية على عروشها } [مريم: 27] والحثيث السير السريع بالسوق وأصل البركة الثبات ومنه بَراكاء القتال.
الإعراب: قولـه { حثيثاً } يجوز أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعاً ومثله قولـه
{ فأتت به قومها تحمله } [مريم: 27] فإن تحمله كذلك ومثله قول الشاعر:

مَتى ما تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُف رَوانِــفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطارا

المعنى: لمّا ذكر سبحانه الكفار وعبادتهم غير الله سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته ودَلَّهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطباً لجميع الخلق { إن ربكم الله } أي إن سيّدكم ومالككم ومنشئكم ومُحدثكم هو الله { الذي خلق السماوات } أي أنشأ أعيانها وأبدعها لا مِن شيء ولا على مثال ثم أمسكها بلا عماد يدعمها.
{ والأرض } أي وأنشأ الأرض أوجدها كذلك { في ستة أيام } أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ولا شبهة أنه سبحانه يقدر على خلق أمثال ذلك في لحظة ولكنه خلقهما في هذه المدة لمصلحة ورتبهما على أيام الأسبوع فابتدأ بالأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة فاجتمع له الخلق يوم الجمعة فلذلك سُمّي الجمعة عن مجاهد. وقيل: إن ترتيب الحوادث على انشاء شيء بعد شيء على ترتيب أدلَّ على كون فاعله عالماً مدبراً يصرفه على اختياره ويجريه على مشيئته. وقيل: إنه سبحانه عَلمَّ خلقه التثبت والرفق في الأمور عن سعيد بن جبير { ثم استوى على العرش }
أي استوى أمره على الملك عن الحسن يعني استقرَّ ملكه واستقام بعد خلق السماوات والأرض فظهر ذلك للملائكة وإنما أخرج هذا على المتعارف من كلام العرب كقولـهم استوى المَلِك على عرشه إذا انتظمت أمور مملكته وإذا اختلَّ أمر ملكه قالوا ثُلَّ عرشه ولعل ذلك المَلَك لا يكون له سرير ولا يجلس على سرير أبداً قال الشاعر:

إذا ما بَنُو مَرْوانَ ثُلَّتْ عُرُوشُهُم وَأوْدَتْ كَما أوْدَتْ إيادٌ وَحِمْيَرُ

وقال:

إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشهْم بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحارِثِ بْنِ شِهابِ

وقيل معناه ثم استوى عليه بأن رفعه عن الجبائي. وقيل: معناه ثم قصد إلى خلق العرش عن الفراء وجماعة واختاره القاضي قال دلَّ بقولـه ثم إن خلق العرش كان بعد خلق السماء والأرض وروي عن مالك بن أنس أنه قال الاستواء غير مجهول وكيفيته غير معلومة والسؤال عنه بدعة وروي عن أبي حنيفة أنه قال أمرّوه كما جاء أي لا تفسروه.
{ يغشي } أي يلبس { الليل النهار } يعني يأتي بأحدهما بعد الآخر فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ولم يقل ويغشى النهار الليل لأن الكلام يدلُّ عليه وقد ذكر في موضع آخر يكوّر الليل على النهار ويكوِّر النهار على الليل { يطلبه حثيثاً } أي يتلوه فيدركه سريعاً وهذا توسّعٌ يريد أنه يأتي في أثره كما يأتي الشيء في أثر الشيء طالباً له.
{ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } أي مذللات جاريات في مجاريهن بتدبيره وصنعه خلقهن لمنافع العباد ومن قرأ مسخرات بالنصب فإنه منصوب على الحال { ألا له الخلق والأمر } إنما فصَّل بين الخلق والأمر لأن فائدتهما مختلفة لأنه يريد بالخلق أن له الاختراع وبالأمر أن له أن يأمر في خلقه بما أحبَّ ويفعل بهم ما شاء { تبارك الله } أي تعالى بالوحدانية فيما لم يزل ولا يزال فهو بمعنى تعالى بدوام الثبات. وقيل: معناه تعالى عن صفات المخلوقين والمحدَثين. وقيل: تعالى بدوام البركة أي البركة في ذكر اسمه { رب العالمين } أي خالقهم ومالكهم وسيّدهم.