التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
٨٨
قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ
٨٩
-الأعراف

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: العود الرجوع وهو مصير الشيء إلى حال كان عليها ومنه إعادة الله الخلق وتستعمل لفظة الإِعادة في الفعل مرة ثانية حقيقة وفي فعل مثله مجازا وكلاهما يسمى إعادة تقول أعدت الكتابة والقراءة ومعناه فعلت مثله قال الزجاج: يقال قد عاد علي من فلان مكروه وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك وتأويله أنه قد لحقني منه مكروه قال الشاعر.

لأَنْ كانَتِ الأَيّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً إلَيَّ فَقَدْ عادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ

الافتراء مشتق من فري الأَديم وهو مثل الاختلاف والافتعال والملة الديانة التي يجتمع على العمل بها فرقة عظيمة والأَصل فيه تكرار الأَمر من قولـهم طريق مليل إذا تكرّر سلوكه حتى توطأ ومنه الملل وهو تكررّ الشيء على النفس حتى تضجر والملة الرماد الحار تدفن فيه الخبزة حتى تنضج لتكرار الحمي عليها والفتح الحكم والفاتح والفتاح الحاكم لأَنه يفتح باب العلم الذي انغلق على غيره وفاتحته في كذا أي قاضيته قال ابن عباس: ما كنت أدري ما الفتح حتى سمحت بنت سيف بن ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت انطلق أفاتحك إلى القاضي أي أحاكمك إليه.
المعنى: ثم أخبر سبحانه عمّا دار بينه وبين قومه فقال { قال الملأَ الذين استكبروا من قومه } أي رفعوا أنفسهم فوق مقدارها { لنخرجنَّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا } أي نخرجنك وأتباعك من المؤمنين بك من بلدتنا التي هي وطنك ومستقرُّك { أو لتعودنَّ في ملتنا } أو لترجعنَّ إلى ملتنا التي كنا عليها لأَنه كان عندهم وفي ظنّهم أنه كان قبل ذلك على دينهم فلذلك أطلقوا لفظ العود وقد كان (ع) يخفي دينه فيهم ويحتمل أنهم أرادوا به قومه فأدخلوه معهم في الخطاب ويحتمل أن يكون المراد به أو لتدخلنَّ في ديننا وطريقتنا لأَن العود يذكر ويراد به الابتداء كما قاله الزجاج: ويكون بمعنى الصيرورة ومثله قول الشاعر:

تِلْكَ المَكارِمُ لا قَعْبان مِنْ لَبَنٍ شيِبا بِماءٍ فَعادا بَعْدُ أَبْوالاَ

وحقيقة المعنى أنا لا نمكنك من المقام في بلدنا وأنت على غير ملّتنا فإما أن تخرج من بلدتنا أو تدخل في ملتنا { قال أولو كنا كارهين } أي قال شعيب: لهم أتعيدوننا في ملتكم وتردّوننا إليها ولو كنا كارهين للدخول فيها والمعنى إنا مع كراهتنا لذلك لما عرفناه من بطلانه لا نرجع فأدخل همزة الاستفهام على ولو قيل المعنى أنكم لا تقدرون على ردّنا إلى دينكم على كره منا فيكون على هذا كارهين بمعنى مكرهين.
{ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجّانا الله منها } أي إن عدنا في ملتكم بأن نحلُّ ما تحلُّونه ونحرّم ما تحرّمونه وننسبه إلى الله تعالى بعد إذ نجانا الله تعالى منها بأن أقام الدليل والحجة على بطلانها وأوضح الحق لنا فقد اختلفنا على الله كذباً فيما دعوناكم إليه { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } قيل في معنى هذه المشيئة مع حصول العلم بأنه سبحانه لا يشاء عبادة الأَصنام أقوال:
أحدها: أن المراد بالملة الشريعة وليس المراد بها ما يرجع إلى الاعتقاد في الله سبحانه وصفاته مما لا يجوز أن تختلف العبادة فيه وفي شريعتهم أشياء يجوز أن يتعبد الله تعالى بها فكأنه قال ليس لنا أن نعود في ملتكم إلا أن يشاء الله أن يتعبدنا بها وينقلنا إليها وينسخ ما نحن فيه من الشريعة عن الجبائي والقاضي.
وثانيها: أنه سبحانه علَّق ما لا يكون بما علم لأَنه لا يكون على وجه التبعيد كما قال
{ { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط } [الأعراف: 40] وكقول الشاعر:

إِذا شابَ الغُرابُ أَتَيْتُ أَهْلي وَصارَ القارُ كاللّبَنِ الْحَليِبِ

فيكون المعنى كما لا يشاء الله عبادة الأَصنام والقبائح لأَنَّ ذلك لا يليق بحكمته فكذلك لا نعود في ملتكم عن جعفر بن حرب.
وثالثها: أن المراد إلا أن يشاء الله أن يمكنَكم من إكراهنا ويخلّي بينكم وبينه فنعود إلى إظهارها مكرهين ويقوّي هذا قولـه { أولو كنا كارهين }
ورابعها: أن تعود الهاء التي في قولـه فيها إلى القرية لا إلى الملة لأَن ذكر القرية قد تقدَّم كما أن ذكر الملة تقدَّم فيكون تحقيق الكلام أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإِظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها.
وخامسها: أن يكون المعنى إلا أن يشاء الله أن يردَّكم إلى الحق فنكون جميعاً على ملة واحدة غير مختلفة لأَنه لما قال حاكياً عنهم أو لتعودنَّ في ملتنا كان معناه أو لنكونن على ملة واحدة غير مختلفة فحسن أن يقول من بعد إلا أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة فإن قيل فكأنَّ الله تعالى ما شاء أن يرجع الكفار إلى الحق قلنا بلى قد شاء ذلك إلا أنه إنما شاء بأن يؤمنوا مختارين ليستحقوا الثواب ولم يشأ على كل حال إذ لو شاءه على كل حال جاز ألا يقع منهم ذلك فكأنه قال إن ملتنا لا تكون واحدة أبداً إلا أن يشاء الله أن يلجئكم إلى الإِيمان والاجتماع معنا على ملتنا.
{ وسع ربنا كل شيء علماً } انتصب علماً على التمييز وتقديره وسع علم ربنا كل شيء فنقل الفعل إلى نفسه لما فيه من جزالة اللفظ وفخامة المعنى. وقيل: في وجه اتصاله بما قبله أن الملة إنما يتعبَّد بها على حسب ما في المعلوم من المصلحة فالمعنى أنه سبحانه أحاط علمه بكل شيء فهو أعلم بما هو أصلح لنا فيتعبِّدنا به. وقيل: إن المراد به أنه عالم بما يكون منا من عود أو ترك.
{ على الله توكلنا } في الانتصار منكم وفي كل أمورنا { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } هذا سؤال من شعيب ورغبة منه إلى الله في أن يحكم بينه وبين قومه بالحق على سبيل الانقطاع إليه سبحانه وإن كان من المعلوم أن الله سيفعله لا محالة. وقيل: إن معناه اكشف بيننا وبين قومنا وبيِّن أيُّنا على حقّ وهذا استعجال منه للنصر { وأنت خير الفاتحين } أي خير الحاكمين والفاضلين.