التفاسير

< >
عرض

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
١١
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
١٢
وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ
١٣
وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ
١٤
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ
١٥
نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ
١٦
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ
١٧
وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ
١٨
إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً
١٩
إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً
٢٠
وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً
٢١
إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ
٢٢
ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ
٢٣
وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ
٢٤
لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
٢٥
وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
٢٦
وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ
٢٧
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
٢٨
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
٢٩
إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
٣٠
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٣١
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٣٢
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ
٣٣
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٣٤
أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ
٣٥
-المعارج

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حفص نزاعة بالنصب والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير لأمانتهم بغير ألف بعد النون والباقون لأماناتهم بالجمع وقرأ حفص ويعقوب وسهل بشهاداتهم على الجمع والباقون بشهادتهم وكلهم قرؤوا على صلاتهم على التوحيد.
الحجة: قال أبو علي: من قرأ { إنها لظى نزاعةُ للشوى } فرفع نزاعة جاز في رفعه ما جاز في قولك هذا زيد منطلق وهذا بعلي شيخ ومن نصب فعلى وجهين أحدهما: أن يكون حالاً والآخر: أن يحمل على فعل فحمله على الحال يبعد لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال فإن قلت فإن في قوله { لظى } معنى التلظي والتلهب فإن ذلك لا يستقيم لأن لظى معرفة لا ينتصب عنها الأحوال ألا ترى أن ما استعمل استعمال الأسماء من اسم فاعل أو مصدر لم يعمل هذا النحو من حيث جرى مجرى الأسماء فبأن يعمل الاسم المعرفة عمله أولى ويدلك على تعريف هذا الاسم وكونه علماً أن التنوين لم يلحقه فإذا كان كذلك لم ينتصب الحال عنه فإن جعلتها مع تعريفها قد صارت معروفة بشدة التلظي جاز أن تنصبه بهذا المعنى الحادث في العلم وعلى هذا قوله تعالى { وهو الله في السماوات وفي الأرض } علقت الظرف بما دلَّ عليه الاسم من التدبير والألطاف فإِن علَّقت الحال بالمعنى الحادث في العلم كما علَّقت الظرف بما دلَّ عليه الاسم من التدبير والالطاف لم يمتنع لأن الحال كالظرف في تعلقها بالمعنى كتعلق الظرف به وكان وجهاً وإن علقت نزاعة بفعل مضمر نحو أعينها نزاعة للشوى لم يمتنع أيضاً وأما قوله { لأمانتهم } على الإفراد وإن كان مضافاً إلى جماعة ولكل واحد منهم أمانة فلأنه مصدر يقع على جميع الجنس ويتناوله ومن جمع فلاختلاف الأمانات وكثرة ضروبها فأشبهت بذلك الأسماء التي ليست للجنس والقول في الشهادة والشهادات مثل القول في الأمانة والأمانات.
اللغة: المودَّة مشتركة بين التمني وبين المحبة يقال وددت الشيء أي تمنّيته ووددته أي أحببته أودُّ فيهما جميعاً والافتداء افتداء الضرر عن الشيء ببدل منه والفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة ولظى اسم من أسماء جهنم مأخوذة من التوقد والنزاعة الكثيرة النزع وهو اقتلاع عن شدة ضم والاقتلاع أخذ بشدة اعتماد والشوى جلدة الرأس واحدتها شواة قال الاعشى:

قالَــتْ قُتَيْلَـــةُ ما لَهُ قَدْ جُلِّلَتْ شَيْباً شَواتُهْ

والشوى الأكارع والأطراف والشوى ما عدى المقاتل من كل حيوان يقال رماه فأشواه أي أصاب غير مقتله ورمى فأصمى أي أصاب المقتل والشوى أيضاً الخسيس من المال والهلوع الشديد الحرص الشديد الجزع والإشفاق رقة القلب عن تحمل ما يخاف من الأمور فإذا قسا قلب الإنسان بطل الإشفاق والعادي الخارج عن الحق يقال عدا فلان إذا اعتدى وعداً في مشيه إذا أسرع وهو الأصل والعادي الظالم بالإسراع إلى الظلم.
الإعراب: يجوز أن يكون العامل في الظرف من قوله { يوم تكون السماء كالمهل } قوله { يبصرونهم } وقوله { يودُّ المجرم } يجوز أن يكون استئناف كلام ويجوز أن يكون في محل الجر بدلاً من تكون السماء كالمهل. هلوعاً ومنوعاً وجزوعاً منصوبة على الحال والتقدير خلق هلوعاً, جزوعاً إذا مسّه الشرّ, منوعاً إذا مسّه الخير والمصلين منصوب على الاستثناء وقوله { إلا على أزواجهم } قيل: إن على هذه محمولة على المعنى والتقدير فإنهم يلامون على غير أزواجهم ويدل عليه قوله { فإنهم غير ملومين } عن الزجاج. وقيل: تقديره إلا من أزواجهم فيكون على بمعنى من.
المعنى: لمّا وصف سبحانه القيامة وأخبر أن الحميم فيه لا يسأل حميمه لشغله بنفسه قال { يبصرونهم } أي يعرف الكفار بعضهم بعضاً ساعة ثم لا يتعارفون ويفرّ بعضهم من بعض عن ابن عباس وقتادة. وقيل: يعرفهم المؤمنون عن مجاهد أي يبصَّر المؤمن أعداءه على حالهم من العذاب فيشمت بهم ويسر. وقيل: يعرف أتباع الضلالة رؤساءهم. وقيل: إن الضمير يعود إلى الملائكة وقد تقدَّم ذكرهم أي يعرفهم الملائكة ويجعلون بصراء بهم فيسوقون فريقاً إلى الجنة وفريقاً إلى النار.
{ يودُّ المجرم } أي يتمنى العاصي { لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه } يتمنى سلامته من العذاب النازل به بإسلام كل كريم عليه من أولاده الذين هم أعزُّ الناس عليه.
{ وصاحبته } أي زوجته التي كانت سَكَناً له وربما آثرها على أبويه { وأخيه } الذي كان ناصراً له ومعيناً { وفصيلته } أي وعشيرته { التي تؤويه } في الشدائد وتضمّه ويأوي إليها في النسب { ومن في الأرض جميعاً } أي وبجميع الخلائق يقول يودُّ لو يفتدي بجميع هذه الأشياء { ثم ينجيه } ذلك الفداء.
{ كلا } لا ينجيه ذلك قال الزجاج كلا ردع وتنبيه أي لا يرجع أحد من هؤلاء فارتدعوا { إنها لظى } يعني أن نار جهنم أو القصة لظى نزاعة للشوى وسميت لظى لأنها تتلظى أي تشتعل وتلتهب على أهلها. وقيل: لظى اسم من أسماء جهنم. وقيل: هي الدركة الثانية منها وهي { نزاعة للشوى } تنزع الأطراف فلا تترك لحماً ولا جلداً إلا أحرقته عن مقاتل. وقيل: تنزع الجلد وأم الرأس عن ابن عباس. وقيل: تنزع الجلد واللحم عن العظم عن الضحاك. وقال: الكلبي يعني تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان وقال أبو صالح: الشوى لحم الساق. وقال سعيد بن جبير: العصب والعقب وقال أبو العالية: محاسن الوجه.
{ تدعو من أدبر وتولى } يعني النار تدعو إلى نفسها من أدبر عن الإيمان وتولى عن طاعة الله ورسوله عن قتادة والمعنى أنه لا يفوت هذه النار كافر فكأنها تدعوه فيجيبها كرهاً. وقيل: إن الله تعالى ينطق النار حتى تدعوهم إليها. وقيل: معناه تدعو زبانية النار من أدبر وتولى عن الحق فجعل ذلك سبحانه دعاء من النار عن الجبائي. وقيل: تدعو أي تعذب رواه المبرد عن الخليل قال: يقال دعاك الله أي عذَّبك.
{ وجمع } المال { فأوعى } أي أمسكه في الوعاء فلم ينفقه في طاعة الله فلم يؤدّ زكاة ولم يصل رحماً. وقيل: جمعه من باطل ومنعه عن الحق { إن الإنسان خلق هلوعاً } أي ضجوراً شحيحاً جزوعاً من الهلع وهو شدَّة الحرص. وقال أهل البيان تفسيره فيما بعد.
{ إذا مسَّه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً } يعني إذا أصابه الفقر لا يحتسب ولا يصبر وإذا أصابه الغنى منعه من البرّ.
ثم استثنى سبحانه الموحِّدين المطيعين فقال { إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون } مستمرُّون على أدائها لا يخلون بها ولا يتركونها وروي عن أبي جعفر (ع) أن هذا في النوافل وقوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } في الفرائض والواجبات. وقيل: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة عن عقبة عن عامر والزجاج { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } يعني الزكاة المفروضة والسائل الذي يسأل والمحروم الفقير الذي يتعفف ولا يسأل وقد سبق تفسيرها وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال الحق المعلوم ليس من الزكاة وهو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة وإن شئت كل يوم ولكل ذي فضل فضله وروي عنه أيضاً أنه قال هو أن تصل القرابة وتعطي من حرمك وتصدق على من عاداك.
{ والذين يصدّقون بيوم الدين } أي يؤمنون بأن يوم الجزاء والحساب حقٌّ لا يشكّون في ذلك { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } أي خائفون { إن عذاب ربهم غير مأمون } أي لا يؤمن حلوله بمستحقيه وهم العصاة. وقيل: معناه يخافون أن لا تقبل حسناتهم ويؤخذون بسيئاتهم. وقيل: غير مأمون لأن المكلف لا يدري هل أدّى الواجب كما أمر به وهل انتهى عن المحظور على ما نهى عنه ولو قدرنا أن إنساناً يعلم ذلك من نفسه لكان آمنا.
{ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } يعني الذين يحفظون فروجهم عن المناكح على كل وجه وسبب إلاّ على الأزواج أو ملك الأيمان من الإماء { فإنهم غير ملومين } على ترك حفظ الفروج عنهم { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } فمن طلب وراء ما أباحه الله له من الفروج فأولئك هم الذين تعدّوا حدود الله وخرجوا عما أباحه لهم ومعنى وراء ذلك ما خرج عن حدّه من أيّ جهة كان.
{ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } أي حافظون والأمانة ما يؤتمن المرء عليه مثل الوصايا والودائع والحكومات ونحوها. وقيل: الأمانة الإيمان وما أخذ الله على عباده من التصديق بما أوجبه عليهم والعمل بما يجب عليهم العمل به { والذين هم بشهاداتهم قائمون } أي يقيمون الشهادات التي تلزمهم إقامتها والشهادة الإخبار بالشيء أنه على ما شاهدوه ذلك أنه قد يكون عن مشاهدة للمخبر به وقد يكون عن مشاهدة ما يدعو إليه.
{ والذين هم على صلاتهم يحافظون } أي يحفظون أوقاتها وأركانها فيؤدّونها بتمامها ولا يضيّعون شيئاً منها وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (ع) أنه قال أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا وروى زرارة عن أبي جعفر (ع) قال هذه الفريضة من صلاّها لوقتها عارفاً بحقها لا يؤثر عليها غيرها كتب الله لها بها براءة لا يعذبه ومن صلاّها لغير وقتها مؤثراً عليها غيرها فإن ذلك إليه إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه و { أولئك } من وصفوا بهذه الصفات { في جنات } اي بساتين يجنُّها الشجر { مكرمون } معظمون مبجلون بما يفعل بهم من الثواب.