التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً
١٥
وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً
١٦
وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً
١٧
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً
١٨
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً
١٩
لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
٢٠
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
٢١
وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً
٢٢
وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
٢٣
وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً
٢٤
مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً
٢٥
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً
٢٦
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
٢٧
رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً
٢٨
-نوح

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة وُدّاً بالضم والباقون بالفتح وقرأ أبو عمرو مما خطاياهم والباقون مما خطيئاتهم بالتاء والمد والهمزة وقد ذكرنا الاختلاف في ولده في سورة مريم (ع).
الحجة: قال أبو عبيدة: زعموا أن ودّاً كان صنم لهذا الحي من كلب وحكاه بالفتح قال وسمعت قول الشاعر:

فَحَيّـاكَ وَدٌّ ما هَــداكَ لِفِتْيَــــةٍ وَخُوصٍ بِأَعْلى ذِي طُوالَةَ هُجَّدِ

وقال أبو الحسن: ضمَّ أهل المدينة الواو وعسى أن يكون لغة في اسم الصنم وسمعت هذا البيت:

حَيّـاكَ وُدّاً فَإنّــا لا يَحِـــلُّ لَنا لَهْوُ النِّساءِ وَإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَما

الواو مضمومة وخطاياهم جمع التكسير وخطيئات جمع التصحيح وما زائدة كالتي في قوله { فبما رحمة من الله } وقوله { فبما نقضهم ميثاقهم }.
اللغة: الفجاج الطرق المتسعة المتفرقة واحدها فج. وقيل: الفج المسلك بين جبلين والسواع هنا صنم وفي غيره الساعة من الليل ومثله السعواء والكبار الكبير جداً يقال: كبير ثم كُبار ثم كُبّار ومثله عجيب وعُجاب وعُجّاب وحسن وحُسان وحُسَّان وروي أن أعرابياً سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ومكروا مكراً كباراً فقال ما أفصح ربك يا محمد وهذا من جفاء الأعراب لأن الله تعالى سبحانه لا يوصف بالفصاحة ودياراً فيعال من الدوران ونحوه القيام والأصل قيوام وديوار فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى قال الزجاج يقال ما بالدار ديّار أي ما بها أحد يدور في الأرض قال الشاعر:

وَما نُبالي إذا ما كُنْتِ جارَتَنا أَنْ لا يُجـاوِرَنا إلاّكِ دَيّــارُ

فجعل المتصل موضع المنفصل ضرورة.
الإعراب: طباقاً منصوباً على أحد وجهين أن يكون على تقدير خلقهن طباقاً وأن يكون نعتاً لسبع أي سبع سماوات ذات طباق نباتاً مصدر فعل محذوف تقديره أنبتكم فنبتم نباتاً وقال الزجاج: هو محمول على المعنى لأن معنى أنبتكم جعلكم تنبتون نباتاً وما من قوله { ممّا خطيئاتهم } مزيدة لتأكيد الكلام.
المعنى: ثم خاطب سبحانه المكلفين منبّهاً لهم على توحيده فقال { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً } أي واحدة فوق الأخرى كالقباب { وجعل القمر فيهنّ نوراً } قيل فيه وجوه أحدها: أن المعنى وجعل القمر نوراً في السماوات والأرض عن ابن عباس قال يضيء ظهره لما يليه من السماوات ويضيء وجهه لأهل الأرض وكذلك الشمس وثانيها: أن معنى فيهن معهنَّ يعني وجعل القمر معهن أي مع خلق السماوات نوراً لأهل الأرض وثالثها: أن معنى فيهنّ في حيّزهن وإن كان في واحدة منها كما تقول إن في هذا الدور لبئراً وإن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهنّ وكما تقول أتيت بني تميم وإنما أتيت بعضهم.
{ وجعل الشمس سراجاً } أي مصباحاً يضيء لأهل الأرض لما كانت الشمس جعل فيها النور للاستضاءة به كانت سراجاً فهي سراج العالم كما أن المصباح سراج الإنسان { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } يعني مبتدأ خلق آدم وآدم خلق من الأرض والناس ولده وهذا كقوله:
{ { وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء } [النساء: 1]. وقيل: معناه أنه أنشأ جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض ونما فيها. وقيل: معناه أنبتكم من الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر { ثم يعيدكم فيها } أي في الأرض أمواتاً { ويخرجكم } منها عند البعث أحياء { إخراجاً } وإنما ذكر المصدر تأكيداً { والله جعل لكم الأرض بساطاً } أي مبسوطة ليمكنكم المشي عليها والاستقرار فيها.
ثم بيَّن أنه إنما جعلها كذلك { لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } أي طرقاً واسعة. وقيل: طرقاً مختلفة عن ابن عباس. وقيل: سبلاً في الصحارى وفجاجاً في الجبال وإنما عدَّد سبحانه هذه الضروب من النعم امتناناً على خلقه وتنبيهاً لهم على استحقاقه للعبادة خالصة من كل شرك ودلالة لهم على أنه عالم بمصالحهم ومدبّر لهم على ما تقتضيه الحكمة فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود.
ثم عاد سبحانه إلى ذكر نوح (ع) بقوله { قال نوح } على سبيل الدعاء { رب إنهم عصوني } فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه يعني قومه { واتَّبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً } أي واتبعوا أغنياء قومهم اغتراراً بما آتاهم الله من المال والولد فقالوا لو كان هذا رسولاً لله لكان له ثروة وغنى وقرىء وُلده ووَلده بالضم والفتح فالولد الجماعة من الأولاد والولد الواحد. وقيل: هما سواء والخسار الهلاك بذهاب رأس المال. وقيل: إن معناه اتبع الفقراء والسفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والأولاد إلا هلاكاً في الدنيا وعقوبة في الآخرة.
{ ومكروا } في دين الله { مكراً كبّاراً } أي كبيراً عظيماً عن الحسن. وقيل: معناه قالوا قولاً عظيماً عن ابن عباس. وقيل: اجترؤوا على الله وكذبوا رسله عن الضحاك. وقيل: مكرهم تحريشهم سفلتهم على قتل نوح (ع).
{ وقالوا لا تذرن آلهتكم } أي لا تتركوا عبادة أصنامكم ثم خصّوا أصناماً لهم معروفة بعد دخولها في الجملة الأولى تعظيماً لها فقالوا { لا تذرنَّ ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها ثم عبدتها العرب فيما بعد عن ابن عباس وقتادة. وقيل: إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح (ع) فنشأ قوم بعدهم يأخذون أخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صوَّرتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا فنشأ بعدهم قوم فقال لهم إبليس إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت عن محمد بن كعب.
وقيل: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند ويحول بينه وبين الكفار لئلا يطوفوا بقبره فقال لهم إبليس إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم وإنما هو جسد وأنا أصوّر لكم مثله تطيفون به فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر.
فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام وطمَّها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب فاتَّخذت قضاعة ودّاً فعبدوها بدومة الجندل ثم توارثها بنوه الأكابر فالأكابر حتى صارت إلى كلب فجاء الإسلام وهو عندهم وأخذ بطنان من طيّ يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زماناً ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم ففروا به إلى بني الحرث بن كعب.
وإما يعوق فكان لكهلان ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه عن ابن عباس.
وقيل: إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب فكانت ود بدومة الجندل وسواع برهاط لهذيل وكان يغوث لبني غطيف من مراد وكان يعوق لهمدان وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير وكان اللات لثقيف وأما العزى فلسليم وغطفان وجشم ونضر وسعد بن بكر وأما مناة فكانت لقديد وأما أساف ونائلة وهبل فلأهل مكة وكان أساف حيال الحجر الأسود وكانت نائلة حيال الركن اليماني وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعاً عن عطاء وقتادة والثمالي وقال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر من الطير.
{ وقد أضلّوا كثيراً } أي ضلَّ بعبادتها وبسببها كثير من الناس نظيره ربّ أنهنَّ أضللن كثيراً من الناس. وقيل: معناه وقد أضلَّ كبراؤهم كثيراً من الناس عن مقاتل وأبي مسلم وعلى هذا فإن الضمير في أضلّوا يعود إلى أكابر قوم نوح { ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } أي هلاكاً كما في قوله
{ { إن المجرمين في ضلال وسعر } [القمر: 47]. وقيل: إلا فتنة بالمال والولد. وقيل: إلا ذهاباً عن الجنة والثواب. قال البلخي: لا تزدهم إلا منعاً من الطاعات عقوبة لهم على كفرهم فإنَّهم إذا ضلّوا استحقُّوا منع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين فيطيعون عندها ويمتثلون ولا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق والإيمان لأن ذلك لا يجوز في صفة الحكيم تعالى الله عن ذلك.
{ مما خطيئاتهم أغرقوا } أي من خطيئاتهم وما مزيدة والتقدير من أجل ما ارتكبوه من الخطايا والكبائر { أغرقوا } على وجه العقوبة { فأدخلوا ناراً } بعد ذلك ليعاقبوا فيها { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } أي لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله وإنما أتى سبحانه بألفاظ المعنى على معنى الاستقبال لصدق الوعد به وقال الضحاك: أغرقوا فأدخلوا ناراً في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في النار من جانب وأنشد ابن الأنباري:

الْخَلْقُ مُجْتَمِعٌ طَوْراً وَمُفْتَرِقٌ وَالْحادِثـاتُ فُنُـونٌ ذاتُ أطْوارِ
لا تَعْجَبَنَّ لأضْدادٍ إذا اجْتَمَعَتْ فَاللهُ يَجْمَــعُ بَيْــن الْماءِ وَالنَّارِ

{ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً } أي نازل دار يعني لا تدع منهم أحداً إلا أهلكته. قال قتادة: ما دعا بهذا عليهم إلا بعد أن أنزل عليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلذلك قال { إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك } أي إن تتركهم ولم تهلكهم يضلّوا عبادك عن الدين بالإغواء والدعاء إلى خلافه { ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً } وإلا فلم يعلم نوح الغيب وإنما قال ذلك بعد أن أعلمه الله إياه والمعنى ولا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافراً لأنه لا يذمُّ على الكفر من لم يقع منه فعل الكفر وقال مقاتل والربيع وعطاء إنما قال ذلك نوح (ع) لأن الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمناً وأعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة وأخبر الله تعالى نوحاً بأنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً فحينئذٍ دعا عليهم فأجاب الله دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب.
ثم دعا لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات فقال { ربّ اغفر لي ولوالديَّ } واسم أبيه لمك بن متوشلخ واسم أمه سمحاء بنت أنوش وكانا مؤمنين. وقيل: يريد آدم وحواء { ولمن دخل بيتي مؤمناً } أي دخل داري. وقيل: مسجدي عن الضحاك. وقيل: سفينتي. وقيل: يريد بيت محمد صلى الله عليه وسلم { وللمؤمنين والمؤمنات } عامة. وقيل: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن الكلبي { ولا تزد الظالمين إلا تباراً } أي هلاكاً ودماراً قال أهل التحقيق: دعا نوح (ع) دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين فاستجاب الله دعوته على الكافرين فأهلك من كان منهم على وجه الأرض ونرجو أن يستجيب أيضاً دعوته للمؤمنين فيغفر لهم.