التفاسير

< >
عرض

لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
٢٢
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
٢٣
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
٢٤
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
-القيامة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة والكوفة تحبّون وتذرون بالتاء والباقون بالياء.
الحجة: من قرأ بالتاء فعلى معنى قل لهم بل تحبّون وتذرون ومن قرأ بالياء فعلى معنى هم يحبون ويذرون قال أبو علي الياء على ما تقدَّم من ذكر الإنسان فإن المراد به الكثرة والعموم كقوله
{ { إن الإنسان خلق هلوعاً } [المعارج: 19] ثم قال { إلا المصلين }.
اللغة: التحريك تصيير الشيء من مكان إلى مكان أو من جهة إلى جهة بفعل الحركة فيه والحركة ما به يتحرك المتحرك والمتحرك هو المنتقل من جهة إلى غيرها واللسان آلة الكلام والعجلة طلب عمل الشيء قبل وقته الذي ينبغي أن يعمل فيه ونقيضه الإبطاء والسرعة عمل الشيء في أول الوقت الذي هو له وضدّه الأناة والقرآن أصله الضم والجمع وهو مصدر كالرجحان والنقصان والبيان إظهار المعنى للنفس بما يتميَّز به عن غيره ونقيض البيان الإخفاء والإِغماض والنضرة مثل البهجة والطلاقة وضدّه العبوس والبسور نضر وجهه ينضر نضارة ونضرة فهو ناضر والنظر تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلباً لرؤيته ويكون النظر بمعنى الانتظار كما قال عزَّ شأنه
{ { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة } [النمل: 35] أي منتظرة وقال الشاعر:

وُجُــوهٌ يَوْمَ بَدْرٍ ناظِراتٌ إلَى الرَّحْمنِ تَنْتَظِرُ الْفَلاحا

ثم يستعمل في الفكر فيقال نظرت في هذه المسألة أي تفكرت ومنه المناظرة وتكون من المقابلة يقال دور بني فلان تتناظر أي تتقابل والفاقرة الكاسرة لفقار الظهر شدة. وقيل: الفاقرة الداهية والآبدة.
المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم فقال { لا تحرّك به لسانك لتعجل به } قال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبّه إياه وحرصه على أخذه وضبطه مخافة أن ينساه فنهاه الله عن ذلك وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاجل من التنزيل شدة وكان يشتد عليه حفظه فكان يحرّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي فقال سبحانه { لا تحرّك به } أي بالوحي أو بالقرآن لسانك يعني بالقراءة لتعجل به أي لتأخذه كما قال
{ { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [طه: 114].
{ إن علينا جمعه } في صدرك حتى تحفظه { وقرآنه } أي وتأليفه على ما نزل عليك عن قتادة. وقيل: معناه إن علينا جمعه وقرآنه عليك حتى تحفظه ويمكنك تلاوته فلا تخف فوت شيء منه عن ابن عباس والضحاك.
{ فإذا قرأناه } أي قرأه جبريل عليك بأمرنا { فاتّبع قرآنه } أي قراءته عن ابن عباس والمعنى أقرأه إذا فرغ جبريل عن قراءته قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا إذا نزل عليه جبريل (ع) أطرق فإذا ذهب قرأ. وقيل: { فاتّبع قرآنه } أي فاعمل بما فيه من الأحكام والحلال والحرام عن قتادة والضحاك وقال البلخي: الذي اختاره أنه لم يرد القرآن وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله وما بعده وليس فيه شيء يدل على أنه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا وفي ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول لا تحرّك لسانك بما تقرأ من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك ولا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر واستعجل فيقال له توبيخاً لا تعجل وتثبت لتعلم الحجة عليك فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره.
{ ثم إن علينا بيانه } لو أنكرت وقال الحسن: معناه ثم إن علينا بيان ما أنبأناك أنا فاعلون في الآخرة وتحقيقه. وقيل: يريد أنا نبيّن لك معناه إذا حفظته عن قتادة. وقيل: معناه ثم إن علينا أن نحفظه عليك حتى تبين للناس بتلاوتك إياه عليهم. وقيل: معناه علينا أن ننزله قرآناً عربياً فيه بيان للناس عن الزجاج وفي هذا دلالة على أنه لا تعمية في القرآن ولا ألغاز ولا دلالة فيه على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وإنما يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
{ كلا } أي لا تتدبَّرون القرآن وما فيه من البيان { بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة } أي تختارون الدنيا على العقبى فيعملون للدنيا لا للآخرة جهلاً منهم وسوء اختيارهم.
ثم بيَّن سبحانه حال الناس في الآخرة فقال { وجوه يومئذٍ } يعني يوم القيامة { ناضرة } أي ناعمة بهجة حسنة عن ابن عباس والحسن. وقيل: مسرورة عن مجاهد. وقيل: مضيئة بيض يعلوها النور عن السدي ومقاتل جعل الله سبحانه وجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة علامة للخلق والملائكة على أنهم الفائزون.
{ إلى ربها ناظرة } اختلف فيه على وجهين أحدهما: أن معناه نظر العين والثاني: أنه الانتظار واختلف من حمله على نظر العين على قولين:
أحدهما: أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالاً بعد حال فيزداد بذلك سرورها وذكر الوجوه والمراد أصحاب الوجوه روى ذلك عن جماعة من علماء المفسرين من الصحابة والتابعين لهم وغيرهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى
{ { وجاء ربك } [الفجر: 22] أي أمر ربك وقوله { { وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار } [غافر: 42] أي إلى العزيز طاعة الغفار وتوحيده وقوله { { إن الذين يؤذون الله } [الأحزاب: 57] أي أولياء الله.
والآخر: أن النظر بمعنى الرؤية والمعنى تنظر إلى الله معاينة رووا ذلك عن الكلبي ومقاتل وعطاء وغيرهم وهذا لا يجوز لأن كل منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة واللحاظ والله يتعالى عن أن يشار إليه بالعين كما يجلّ سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع وأيضاً فإنّ رؤية الحاسة لا تتم إلا بالمقابلة والتوجه والله يتعالى عن ذلك بالاتفاق وأيضاً فإن رؤية الحاسة لا تتم إلا باتصال الشعاع بالمرئي والله منزّه عن اتصال الشعاع به على أن النظر لا يفيد الرؤية في اللغة فإنه إذا علق بالعين أفاد طلب الرؤية كما أنه إذا علق بالقلب أفاد طلب المعرفة بدلالة قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول ساقطاً متناقضاً وقولهم ما زلت أنظر إليه حتى رأيته والشيء لا يجعل غاية لنفسه فلا يقال ما زلت أراه حتى رأيته ولأنا نعلم الناظر بالضرورة ولا نعلمه رائياً بالضرورة بدلالة إنا نسأله هل رأيت أم لا.
وأما من حمل النظر في الآية على الانتظار فإنهم اختلفوا في معناه على أقوال أن المعنى منتظرة لثواب ربها وروى ذلك عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير والضحاك وهو المروي عن علي (ع) ومن اعترض على هذا بأن قال إن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدّى بإلى فلا يقال انتظرت إليه وإنما يقال انتظرته فالجواب عنه على وجوه منها أنه قد جاء في الشعر بمعنى الانتظار معدّى بإلى كما في البيت الذي سبق ذكره: ناظرات إلى الرحمن وكقول جميل بن معمر:

وَإذا نَظَرْتُ إلَيْـكَ مِنْ مَلَكٍ وَالْبَحْرُ دُونَكَ جُدْتَني نَعِما

وقول الآخر:

إنّــي إلَيْـكَ لِمّا وَعَدْتَ لَناظِرٌ نَظَرَ الْفَقِيرِ إلَى الْغَنِي الْمُوسِرِ

ونظائره كثيرة ومنها أن تحمل إلى في قوله { { إلى ربها ناظرة } [القيامة: 23] على أنها اسم فهو واحد الآلآء التي هي النعم فإن في واحدها أربع لغات إليّ وأَليَ مثل معاً وقَفاً وإلَيٌّ وإلي مثل جدى وحِسى وسقط التنوين بالإضافة وقال أعشى وائل:

أَبْيَضُ لا يَرْهَبُ الْهُزالَ وَلا يَقْطَـعُ رِحْماً وَلا يَخُونُ إلاَّ

أي لا يخون نعمة من أنعم عليه وليس لأحد أن يقول إن هذا من أقوال المتأخرين وقد سبقهم الإجماع فإنا لا نسلم ذلك لما ذكرناه من أن عليّاً (ع) ومجاهد والحسن وغيرهم قالوا المراد بذلك تنتظر الثواب ومنها أن لفظ النظر يجوز أن يعدّى بإلى في الانتظار على المعنى كما أن الرؤية عديت بإلى في قوله تعالى { { ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل } [الفرقان: 45] فأجرى الكلام على المعنى ولا يقال رأيت إلى فلان ومن إجراء الكلام على المعنى قول الفرزدق:

وَلَقَدْ عَجِبْتُ إلى هَوازِنَ أَصْبَحَتْ مِنّـي تَلُـــوذُ بِبَطْــنِ أُمّ جَرِيـــرِ

فعدّى عجبت بإلى لأن المعنى نظرت.
وثانيها: أن معناه مؤملة لتجديد الكرامة كما يقال عيني ممدودة إلى الله تعالى وإلى فلان وأنا شاخص الطرف إلى فلان ولما كانت العيون بعض أعضاء الوجوه أضيف الفعل الذي يقع بالعين إليها عن أبي مسلم.
وثالثها: أن المعنى أنهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن كل شيء سوى الله تعالى ووجوه دون غيره فكنى سبحانه عن الطمع بالنظر ألا ترى أن الرعية تتوقع نظر السلطان وتطمع في إفضاله عليها وإسعافه في حوائجها فنظر الناس مختلف فناظر إلى سلطان وناظر إلى تجارة وناظر إلى زراعة وناظر إلى ربه يؤمله وهذه الأقوال متقاربة في المعنى وعلى هذا فإن هذا الانتظار متى يكون فقيل إنه بعد الاستقرار في الجنة. وقيل: إنه قبل استقرار الخلق في الجنة والنار فكل فريق ينتظر ما هو له أهل وهذا اختيار القاضي عبد الجبار.
وذكر جمهور أهل العدل أن النظر يجوز أن يحمل على المعنيين جميعاً ولا مانع لنا من حمله على الوجهين فكأنه سبحانه أراد أنهم ينظرون إلى الثواب المعدّ لهم في الحال من أنواع النعيم وينتظرون أمثالها حالاً بعد حال ليتم لهم ما يستحقُّونه من الإجلال ويسأل على هذا فيقال إذا كان بمعنى النظر بالعين حقيقة وبمعنى الانتظار مجازاً فكيف يحمل عليهما والجواب أن عند أكثر المتكلمين في أصول الفقه يجوز أن يراد بلفظه واحدة إذ لا تنافي بينهما وهو اختيار المرتضى قدس الله روحه ولم يجوز ذلك أبو هاشم إلا إذا تكلَّم به مرتين مرَّة يريد النظر ومرَّة يريد الانتظار.
وأما قولهم المنتظر لا يكون نعيمه خالصاً فكيف يوصف أهل الجنة بالانتظار فالجواب عنه أن من ينتظر شيئاً لا يحتاج إليه في الحال وهو واثق بوصوله إليه عند حاجته فإنه لا يهتمّ بذلك ولا يتنغصَّ سروره بل ذلك زائد في نعيمه وإنما يلحق الهم المنتظر إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره في الحال ويلحقه بفوته مضرّة وهو غير واثق بالوصول إليه وقد قيل في إضافة النظر إلى الوجوه أن الغّم والسرور إنما يغامران في الوجوه فبيّن الله سبحانه أن المؤمن إذا ورد يوم القيامة تهلَّل وجهه وإن الكافر العاصي يخاف مغبة أفعاله القبيحة فيكلح وجهه وهو قوله { ووجوه يومئذٍ باسرة } أي كحالة عابسة متغيّرة { تظنّ أن يفعل بها فاقرة } أي تعلم وتستيقن أنه يعمل بها داهية تفقر ظهورهم أي تكسرها. وقيل: إنه على حقيقة الظن أي يظنون حصولها جملة ولا يعلمون تفصيلها وهذا أولى من الأول لأنه لو كان بمعنى العلم لكان إن بعده مخففة من أن الثقيلة على ما ذكر في غير موضع وذكر سبحانه هذه الوجوه الظانة في مقابلة الوجوه الناظرة فهؤلاء يرجون تجديد الكرامة وهؤلاء يظنون حلول الفاقرة فيكون حال الوجوه الراجية للأحوال السارة على الضد من حال الوجوه الظانة للفاقرة.
النظم: وجه اتصال قوله { لا تحرّك به لسانك } بما قبله أنه لمّا تقدم ذكر القيامة والوعيد خاطب سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال لا تحرّك به لسانك لتعجل قراءته بل كرِّرها عليهم ليتقرر في قلوبهم فإنهم غافلون عن الأدلة ألهاهم حبَّ العاجلة فاحتاجوا إلى زيادة تنبيه وتقرير.