التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ
٣٣
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٤
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٥
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
٣٦
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ
٣٧
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ
٣٨
فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣٩
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ
٤٠
-القيامة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حفص ورويس يمنى بالياء والباقون بالتاء.
الحجة: قال أبو علي: من قرأ بالتاء حمله على النطفة أي لم يك نطفة تمنى من مني ومن قرأ بالياء حمله على المني أي من مني يمني يقدر خلق الإنسان وغيره منها قال:

مَنَتْ لَكَ أَنْ تَلْقَى ابْنَ هِنْدٍ مَنِيَّةٌ وَفارِسَ مَيّـاسٍ إذا مـا تَلَبَّبــا

وقال آخر:

لَعَمْرُ أَبي عَمْرٍو لَقَدْ ساقَهُ الْمَنى إلى جَدَثٍ يُؤْزى لَـهُ بِالأَهاضِــبِ

أي ساقه القدر.
اللغة: التراقي جمع الترقوة وهو مقدّم الحلق من أعلى الصدر تترقى إليه النفس عند الموت وإليه يتراقى البخار من الجوف وهناك تقع الحشرجة قال ذو الرمة:

وَرُبَّ عَظِيَمةٍ دَافَعْت عَنْها وَقَـــدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التَّراقي

والراقي طالب الشفاء رقاه يرقيه رقية إذا طلب له شفاء بأسماء الله الشريفة وآيات كتابه العظيمة وأما العوذة فهي البلية بكلمات الله تعالى وتقول العرب الحرب على ساق يعنون شدة الأمر قال:

فَإذْ شَمَّرَتْ لَكَ عَنْ ساقِها فَوَيْهـاً رَبيــعَ وَلا تَسْأَمِ

والمطّي تمدد البدن من الكسل وأصله أن يلوي مطاه أي ظهره. وقيل: أصله يتمطط فجعل إحدى الطائين ياء وهو من المط بمعنى المدّ كقولهم تظنيت وأمليت ونحو ذلك ونهى عن مشية المطيطاء وذلك أن يلقي الرجل يديه مع التكفي في مشيته. أولى لك كلمة وعيد وتهديد قالت الخنساء:

هممت بنفسي كل الهموم فأولـى بنفسـي أولى لها

والسدى المهمل والعلقة القطعة من الدم المنعقد.
الإعراب: في إعراب أولى وجوه: أحدها: أن يكون مبتدأ وخبره لك. والآخر: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره الشر أولى لك, فعلى هذا يكون اللام في لك للاختصاص كأنه قال: الشر أولى لك من الخير, ويجوز أن يكون بمعنى من من تقديره الشر أقرب منك, وسدى منصوب على الحال من قوله يترك.
المعنى: ثم بيَّن سبحانه حالهم عند النزع فقال { كلا } أي ليس يؤمن الكافر بهذا. وقيل: معناه حقاً { إذا بلغت } النفس أو الروح ولم يذكره لدلالة الكلام عليه كما قال ما ترك على ظهرها من دابة يعني على ظهر الأرض { التراقي } أي العظام المكتنفة بالحلق وكنّى بذلك عن الإشفاء على الموت.
وقيل: من راق أي وقال: من حضره من أهله هل من راق أي طبيب شاف يرقيه ويداويه فلا يجدونه عن أبي قلابة والضحاك وقتادة وابن زيد قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من عذاب الله شيئاً. وقيل: إن معناه قالت الملائكة من يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب عن ابن عباس ومقاتل قال أبو العالية تختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يرقى روحه وقال الضحاك أهل الدنيا يجهزون البدن وأهل الآخرة يجهزون الروح.
{ وظن أنه الفراق } أي وعلم عند ذلك هذا الذي بلغت روحه تراقيها أنه الفراق من الدنيا والأهل والمال والولد والفراق ضدُّ الوصال وهو بعادُ الأُلاَّف وجاء في الحديث:
"أن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته" ومفاصله يسلم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة.
{ والتفت الساق بالساق } قيل فيه وجوه أحدها: التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا عن ابن عباس ومجاهد والثاني: التفت حال الموت بحال الحياة عن الحسن والثالث: التفت ساقاه عند الموت عن الشعبي وأبي مالك لأنه يذهب القوة فيصيّر كجلد يلتف بعضه ببعض. وقيل: هو أن يضطرب فلا يزال يمدّ إحدى رجليه ويرسل الأخرى ويلفّ إحداهما بالأخرى عن قتادة. وقيل: هو التفاف الساقين في الكفن والرابع: التف ساق الدنيا بساق الآخرة وهو شدّة كرب الموت بشدة هول المطلع والمعنى في الجميع أنه تتابعت عليه الشدائد فلا يخرج من شدة إلاّ جاءه أشدُّ منها.
{ إلى ربك يومئذٍ المساق } أي مساق الخلائق إلى المحشر الذي لا يملك فيه الأمر والنهي غير الله تعالى. وقيل: يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر الله تعالى به إن كان من أهل الجنة فإلى عليين وإن كان من أهل النار فإلى سجّين والمساق موضع السوق.
{ فلا صدَّق ولا صلى } أي لم يتصدق بشيء ولم يصل لله { ولكن كذب } بالله { وتولى } عن طاعته عن الحسن. وقيل: معناه لم يصدق بكتاب الله ولا صلّى لله ولكن كذَّب بالكتاب والرسول وأعرض عن الإيمان عن قتادة { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } أي يرجع إليهم يتبختر ويختال في مشيته وقيل: إن المراد بذلك أبو جهل بن هشام.
{ أولى لك فأولى } وهذا تهديد من الله له والمعنى وليك المكروه يا أبا جهل وقرب منك وجاءت الرواية أن رسول الله أخذ بيد أبي جهل ثم قال له:
"أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى" فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهدِّدني لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً وإني لأعزّ أهل هذا الوادي فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه الذمُّ أولى لك من تركه إلا أنه حذف وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك وصار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره. وقيل: هو وعيد على وعيد عن قتادة ومعناه وليك الشر في الدنيا وليك ثم وليك الشر في الآخرة وليك والتكرار للتأكيد. وقيل: بعداً لك من خيرات الدنيا وبعداً لك من خيرات الآخرة عن الجبائي. وقيل: أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر فأولى لك في القبر ثم أولى لك يوم القيامة فلذلك أدخل ثم فأولى لك في النار.
{ أيحسب الإنسان } يعني أبا جهل { أن يترك سدى } مهملاً لا يؤمر ولا ينهى عن ابن عباس ومجاهد والألف للاستفهام والمراد الإنكار أي لا ينبغي أن يظن ذلك. وقيل: إنه عام أي أيظن الإنسان الكافر بالبعث الجاحد لنعم الله أن يترك مهملاً من غير أمر يؤخذ به فيكون فيه تقويم له وإصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره وأجمل به في دنياه وآخرته.
{ ألم يك نطفة من مني يمنى } أي كيف يظن أن يهمل وهو يرى في نفسه ومن تنقل الأحوال ما يمكنه أن يستدل به على أن له صانعاً حكيماً أكمل عقله وأقدره وخلق فيه الشهوة فيعلم أنه لا يجوز أن يخليه من التكليف ومعنى قوله { يمنى } أي يقدر. وقيل: معناه يصب في الرحم.
{ ثم كان علقة فخلق } منها خلقاً في الرحم { فسوى } خلقه وصورته وأعضاءه الباطنة والظاهرة في بطن أمه. وقيل: فسوّاه إنساناً بعد الولادة وأكمل قوته. وقيل: معناه فخلق الأجسام فسوّاها للأفعال وجعل لكل جارحة عملاً يختصَّ بها { فجعل منه } أي من الإنسان { الزوجين الذكر والأنثى }. وقيل: من المني وهذا إخبار من الله سبحانه أنه لم يخلق الإنسان من المني ولم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملاً فإنه لا بدَّ من غرض في ذلك وهو التعريض للثواب بالتكليف.
{ أليس ذلك } الذي فعل هذا { بقادر على أن يحيي الموتى } هذا تقرير لهم على أن من قدر على الابتداء قدر على البعث والإحياء فإن من قدر على جعل النطفة علقة والعلقة مضغة إلى أن يجعلها حيّاً سليماً مركّباً فيه الحواس الخمس والأعضاء الشريفة التي يصلح كل منها لما لا يصلح له الآخر وخلق الزوجين الذكر والأنثى اللذين يصحُّ بهما التناسل فإنه يقدر على إعادته بعد الموت إلى ما كان عليه من كونه حيّاً وجاء في الحديث عن البراء بن عازب قال
"لما نزلت هذه الآية { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحانك اللهم وبلى" وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وفي الآية دلالة على صحة القياس العقلي فإنه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى.