التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ
١٦
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ
١٧
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ
١٨
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٩
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٢٠
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
٢١
إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ
٢٢
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ
٢٣
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٢٤
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً
٢٥
أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً
٢٦
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً
٢٧
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٢٨
-المرسلات

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل المدينة والكسائي فقدرنا بالتشديد والباقون فقدرنا بالتخفيف وفي الشواذ قراءة الأعرج نتبعهم بالجزم.
الحجة: قد تقدم أن قدر وقدَّر بمعنى والتخفيف أليق بقوله { فنعم القادرون } ومن شدَّ أراد أن يجيء باللغتين كما يقال جادٌ مُجِدّ وكقوله سبحانه
{ { فمهل الكافرين أمهلهم } [الطارق: 17] ومن جزم نتبعهم فإن يحتمل أمرين أحدهما: أنه أسكن العين استثقالاً لتوالي الحركات والثاني: أن يكون عطفاً على نهلك كما تقول ألم أزرك ثم أحسن إليك فيكون معنى هذه القراءة أنه يريد قوماً أهلكهم الله سبحانه بعد قوم قبلهم على اختلاف أوقات المرسلين إليهم نبيّاً بعد نبي وأما الرفع على القراءة المشهورة فلاستئناف الكلام أو على أن يجعل خبر مبتدأ محذوف.
اللغة: القرار المكان الذي يمكن طول المكث فيه والقدر المقدر المعلوم الذي لا زيادة فيه ولا نقصان والقدر المصدر من قولهم قَدَر يقدر قَدْراً وقَدَراً أي قدر فمن شدد جمع بين اللغتين كما قال الأعشى:

وَأَنْكَرَتْنـي وَما كانَ الَّذِي نَكرَتْ مِنَ الحَوادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا

وكفت الشيء يكفته كفتاً وكفاتاً إذا ضمه ومنه الحديث: "اكفتوا صبيانكم" أي ضمّوهم إلى أنفسكم ومثله "ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء" ويقال للوعاء كفت وكفيت. وقال أبو عبيدة: كفاتاً أي أوعية والرواسي الثوابت والشامخات العاليات ومنه شمخ بأنفه إذا رفعه كبراً وماء فرات وزلال وعذب ونمير كله من العذوبة والطيب ومنه سمي النهر العظيم المعروف بالفرات قال الشاعر:

إِذا غــابَ عَنّا غابَ عَنّا فُراتُنا وَإِنْ شَهْدَ أَجْدَى نَيْلُهُ وَفَوَاضِلُه

قال ابن عباس أصول الأنهار العذبة أربعة جيحان ومنه دجلة وسيحان نهر بلخ وفرات الكوفة ونيل مصر.
الإعراب: أحياء منصوب بأنه مفعول قوله { كفاتاً } معناه أن يكفت أحياء وأمواتاً فعلى هذا يكون كفاتاً مصدراً وإن جعلته جمع كفت فيكون العامل في أحياء معناه والتقدير واعية أحياء أو تعي أحياء.
المعنى: ثم ذكر سبحانه ما فعله بالمكذبين الأولين فقال { ألم نهلك الأولين } يعني بالعذاب في الدنيا يريد قوم نوح وعاد وثمود حين كذبوا رسلهم { ثم نتبعهم الآخرين } قوم لوط وإبراهيم لم يعطف نتبعهم على نهلك فيجزم بل استأنف وقال المبرد: تقديره ثم نحن نتبعهم لا يجوز غيره لأن قوله { ألم نهلك } ماض وقوله ثم نتبعهم مستقبل ويؤيده قول الحسن أن الآخرين هم الذين تقوم عليهم القيامة.
{ كذلك نفعل بالمجرمين } أي كما فعلنا بمن تقدم نفعل بالمكذبين من أهل مكة وقد فعل بهم ذلك فقتلوا يوم بدر وقد يكون الإهلاك بتصيير الشيء إلى حيث لا يدرى أين هو إما بإعدامه أو بإخفاء مكانه وقد يكون بالإماتة وقد يكون بالنقل إلى حال الجمادية.
{ ويل يومئذٍ } يعني يوم الجزاء { للمكذبين } فإنهم يجازون بأليم العقاب { ألم نخلقكم من ماء مهين } أي حقير قليل الغناء وفي خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواس الصحيحة والعقل الشريف والتمييز والنطق من ماء ضعيف أعظم الاعتبار وأبين الحجة على أن له صانعاً مديراً حكيماً والجاحد لذلك كالمكابر لبداهة العقول { فجعلناه } أي فجعلنا ذلك الماء المهين { في قرار مكين } يعني الرحم { إلى قدر معلوم } أي إلى مقدار من الوقت معلوم يعني مدة الحمل.
{ فقدرنا } أي قدرنا خلقه كيف يكون قصيراً أو طويلاً ذكراً أو أنثى { فنعم القادرون } أي فنعم المقدرون نحن ويجوز أن يكون المعنى إذا خفف من القدرة أي قدرنا على جميع ذلك فنعم القادرون على تدبير ذلك وعلى ما لا يقدر عليه أحد إلا نحن فحذف المخصوص بالمدح.
{ ويل يومئذٍ للمكذبين } بأنا قد خلقنا الخلق وإنا نعيدهم { ألم نجعل الأرض كفاتاً } للعباد تكفتهم { أحياء } على ظهرها في دورهم ومنازلهم وتكفتهم { أمواتاً } في بطنها أي تحوزهم وتضمهم عن قتادة ومجاهد والشعبي. قال بنان: خرجنا في جنازة مع الشعبي فنظر إلى الجنازة فقال: هذه كفات الأموات ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء. وروي ذلك عن أمير المؤمنين (ع) وقيل: كفاتاً أي وعاء وهذا كفته أي وعاءه وقوله { أحياءً وأمواتاً } أي منه ما ينبت ومنه ما لا ينبت فعلى هذا يكون أحياءً وأمواتاً نصباً على الحال وعلى القول الأول على المفعول به.
{ وجعلنا فيها رواسي شامخات } أي جبالاً ثابتة عالية { وأسقيناكم ماء فراتاً } أي وجعلنا لكم سقياً من الماء العذب عن ابن عباس { ويل يومئذٍ للمكذبين } بهذه النعم وأنها من جهة الله. وقيل: بالأنبياء والقرآن وإنما كرّر لأنه عدَّد النعم فذكره عند كل نعمة فلا يعدّ ذلك تكراراً وقد تقدّم الوجه في التكرار في سورة الرحمن.