التفاسير

< >
عرض

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ
١
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ
٢
ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
٣
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٤
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٥
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً
٦
وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً
٧
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
٨
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
٩
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً
١٠
وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً
١١
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
١٢
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
١٣
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
١٤
لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً
١٥
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً
١٦
-النبأ

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في الشواذ قراءة عكرمة وعيسى بن عمر { يتساءلون } وقرأ ابن الزبير وابن عباس وقتادة { وأنزلنا بالمعصرات }.
الحجة: قال ابن جني: إثبات الألف في ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر أضعف اللغتين وروينا عن قطرب لحسان:

عَلى ما قامَ يَشْتِمُني لَئِيمٌ كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ في رِمادِ

وقال في قوله بالمعصرات إذا أنزل منها فقد أنزل بها كقولهم أعطيته من يدي شيئاً وبيدي شيئاً والمعنى واحد ومعنى من هنا ابتداء الغاية أي كان مبتدأ العطية من يده.
اللغة: النبأ الخبر العظيم الشأن ومنه النبيء على مذهب من يهمز والمهاد الوطاء ومهد الشيء تمهيداً أي وطأه توطية والوتد المسمار إلا أنه أغلظ منه والسبات قطع العمل للراحة ومنه سبت أنفه إذا قطعه ومنه يوم السبت أي يوم قطع العمل على ما جرت به العادة في شرع موسى (ع) والوهاج الوقاد وهو المشتعل بالنور العظيم والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر كأن السحاب يحمل الماء ثم تعصره الرياح وترسله كإرسال الماء بعصر الثوب وعُصِرَ القوم مطروا والثجاج الدِّفاع في انصبابه كثج دماءِ البدن. يقال: ثججت دمه أثجُّه ثجاً وقد ثج الدم يثج ثجوجاً وفي الحديث:
"أفضل الحج العج والثج" فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة دم الهدي والألفاف الأخلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض واحدها لف ولفيف. وقيل: شجرة لفاء وأشجار لف بضم اللام وجنات الفاف.
الإِعراب: { عمَّ } أصله عن ما جعل النون ميماً وأدغم في الميم وحذفت الألف لاتصال ما بحرف الجر حتى صارت كالجزء منه وليحصل الفرق بين الاستفهام والخبر وهذه الحروف التي تسقط معها هذه الألف ثمانية عَنْ تقول عمَّ ومِنْ تقول مِمَّ والباء نحو بِمَ واللام نحو لِمَ وفي نحو فِيمَ وإلى نحو إلى م وعلى نحو على م وحتى نحو حتّى مَ قال البصير جامع العلوم النحوي عن النبأ العظيم لا يكون بدلاً من عم لأنه لو كان بدلاً لوجب تكرار ما لأن الجار المتصل بحرف الاستفهام إذا أعيد أعيد مع الحرف المستفهم به كقولك بكم ثوبك أبعشرين أم بثلاثين ولا يجوز بعشرين من غير همزة فإذا كان كذلك كان قوله عن النبأ متعلقاً بفعل آخر دون هذا الظاهر.
المعنى: { عم يتساءلون } قالوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بتوحيد الله تعالى وبالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم أي يسأل بعضهم بعضاً على طريق الإِنكار والتعجب فيقولون ماذا جاء به محمد وما الذي أتى به فأنزل الله تعالى عمَّ يتساءلون أي عن أيّ شيء يتساءلون قال الزجاج: اللفظ لفظ الاستفهام والمراد تفخيم القصة كما تقول أيّ شيء زيد إذا عظمت شأنه.
ثم ذكر أن تساءلهم عن ماذا فقال { عن النبأ العظيم } وهو القرآن ومعناه الخبر العظيم الشأن لأنه ينبىء عن التوحيد وتصديق الرسول والخبر عما يجوز وعما لا يجوز وعن البعث والنشور. وقيل: يعني يوم القيامة عن الضحاك وقتادة ويؤيده قوله
{ { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [النبأ: 17]. وقيل: النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع وصفاته والملائكة والرسل والبعث والجنة والنار والرسالة والخلافة فإن النبأ معروف يتناول الكل { الذي هم فيه مختلفون } فمصدق به ومكذب.
{ كلا } أي ليس الأمر كما قالوا { سيعلمون } عاقبة تكذيبهم حين تنكشف الأمور { ثم كلا سيعلمون } هذا وعيد على أثر وعيد. وقيل: كلاّ أي حقّاً سيعلمون أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم عن الضحاك. وقيل: كلا سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة ثم كلا سيعلمون ما ينالهم في جهنم من العذاب فعلى هذا لا يكون تكراراً.
ثم نبَّههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحة ذلك فقال { ألم نجعل الأرض مهاداً } أي وطاء وقراراً مهيئاً للتصرف فيه من غير أذية. وقيل: مهاداً أي بساطاً عن قتادة { والجبال أوتاداً } للأرض لئلا تميد بأهلها { وخلقناكم أزواجاً } أي أشكالاً كل واحد شكل للآخر. وقيل: معناه ذكراناً وإناثاً حتى يصح منكم التناسل ويتمتع بعضكم ببعض. وقيل: أصنافاً أسود وأبيض وصغيراً وكبيراً إلى غير ذلك.
{ وجعلنا نومكم سباتاً } اختلف في معناه على وجوه أحدها: أن معناه وجعلنا نومكم راحة ودعة لأجسادكم وثانيها: أن المعنى جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم وتصرفكم عن ابن الأنباري وثالثها: جعلنا نومكم سباتاً ليس بموت على الحقيقة ولا مخرجاً عن الحياة والإِدراك.
{ وجعلنا الليل لباساً } أي غطاء وسترة يستر كل شيء بظلمته وسواده { وجعلنا النهار معاشاً } المعاش العيش أي جعلناه مطلب معاش أي مبتغى معاش. وقيل: معناه وجعلنا النهار وقت معاشكم لتتصرفوا في معاشكم أو موضع معاشكم تبتغون فيه من فضل ربكم { وبنينا فوقكم سبعاً } أي سبع سماوات { شداداً } محكمة أحكمنا صنعها وأوثقنا بناءها { وجعلنا سراجاً وهاجاً } يعني الشمس جعلها سبحانه سراجاً للعالم وقاداً متلألأً بالنور يستضيئون به فالنعمة عامة به لجميع الخلق. قال مقاتل: جعل فيه نوراً وحراً والوهج يجمع النور والحر.
{ وأنزلنا من المعصرات } أي الرياح ذوات الأعاصير عن مجاهد وقتادة والكلبي وقال الأزهري ومن معناه الباء فكأنه قال: بالمعصرات أو ذلك أن الريح تستدر المطر. وقيل: المعصرات السحائب تتحلب بالمطر عن الربيع وأبي العالية وهو رواية الوالبي عن ابن عباس { ماء ثجاجاً } أي صباباً دفاعاً في انصبابه. وقيل: مدراراً عن مجاهد. وقيل: متتابعاً يتلو بعضه بعضاً عن قتادة.
{ لنخرج به } أي بالماء { حبّاً ونباتاً } فالحب كل ما نضمنه كمام الزرع الذي يحصد والنبات الكلأ من الحشيش والزرع ونحوهما فجمع سبحانه بين جميع ما يخرج من الأرض. وقيل: حبّاً يأكله الناس ونباتاً تنبته الأرض مما يأكله الأنعام { وجنات ألفافاً } أي بساتين ملتفة بالشجر والتقدير ونخرج به شجر جنات ألفافاً فحذف لدلالة الكلام عليه وإنما سمّي جنة لأن الشجر تجنُّها أي تسترها.