التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً
١
وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً
٢
وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً
٣
فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً
٤
فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً
٥
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ
٦
تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ
٧
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ
٨
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ
٩
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ
١٠
أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً
١١
قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ
١٢
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ
١٣
فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ
١٤
-النازعات

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص وقتيبة ونصير ورويس عن يعقوب ناخرة بالألف والباقون نخرة بغير ألف وروى أبو عمرو الدوري وحمدون عن الكسائي ناخرة ونخرة لا يبالي كيف قرأ وفي الشواذ قراءة أبي حياة الحَفِرَة بغير ألف وقرأ نافع غير قالون ويعقوب إنا لمردودون بهمزة واحدة غير ممدودة إذا كنا بغير استفهام وقرأ ابن عامر والكسائي أءنا لمردودون بهمزتين إذا كنا كما تقدَّم وقرأ ابن كثير إنا إذا كنا بالاستفهام فيهما بهمزة واحدة غير ممدودة وقرأ أبو عمرو بالاستفهام فيهما بهمزة ممدودة وقرأ عاصم وحمزة وخلف فيهما بهمزتين مميزتين وقد تقدَّم ذكر هذا مشروحاً في مواضع.
الحجة: نخرة وناخرة لغتان وقال الفراء النخرة البالية والناخرة المجوفة قال الزجاج ناخرة أكثر وأجود لشبه أواخر الآي بعضها ببعض نحو الخاسرة والحافرة وأما الوجه في الحَفِرَة فهو أن يكون أراد الحافرة كقراءة الجماعة فحذف الألف تخفيفاً كما في قوله:

أَصْبَــــحَ قَلْبِــــي صَــــرِدالا يَــشْــتَــهِــــي أَنْ يَـــــرِدا
إلاّ عَـــــــــراداً عَــــــــــرِدا

أي عارداً.
اللغة: الغرق اسم أُقيم مقام المصدر وهو الإغراق يقال أغرق في النزع إذا استوفى في مدّ القوس وبالغ فيه والنشط النزع أيضاً ومنه حديث أم سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها أي نزعها ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذا خرج بنشاط والهموم تنشط بصاحبها أي تخرج به من حال إلى حال قال هميان بن قحافة:

أَمْسَـــتْ هُمُومِي تَنْشِطُ الْمَناشِطا الشَّامَ بِي طَوْراً وطَوْراً واسِطا

وأنشطت العقدة حللتها ونشطتها عقدتها قالوا كأنما أنشط من عقال والأنشوطة العقدة تنحل إذا مدَّ طرفاها يقال ما عقاله بأنشوطة والرجف حركة الشيء من تحت غيره بترديد واضطراب والرجفة الزلزلة العظيمة وأرجفوا أي أزعجوا الناس باضطراب الأمور وكل شيء تبع شيئاً فقد ردفه وأرداف النجوم تواليها يتبع بعضها بعضاً وأرداف الملوك في الجاهلية الذين يخلفون الملوك والردفان الليل والنهار والوجيف شدة الاضطراب وقلب واجف مضطرب والوجيف سرعة السير وأوجف في السير أسرع وأزعج الركاب فيه والحافرة بمعنى المحفورة مثل ماء دافق أي مدفوق. وقيل: الحافرة الأرض المحفورة ورجع الشيخ في حافرته أي رجع من حيث جاء وذلك كرجوع القهقرى قال:

أَحافِرَةً عَلَى صَلْعٍ وَشَيْبٍ مَعــــاذَ اللهِ مِــــنْ سَفَـــهٍ وَعارِ

أي أرجوعاً إلى حال الشباب وأوله ويقال النقد عند الحافر أي لا يزول حافر الفرس حتى ينقد الثمن لأنه لكرامته لا يباع نسيئة ثم كثر حتى قيل في غير الحافرة. والساهرة وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض من الفلاة ساهرة أي ذات سهر لأنه يسهر فيها خوفاً منها قال أمية بن أبي الصلت:

وَفِيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وَبَحْرٍ وَمـــا فاهُــوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ

أي وفيها صيد البر والبحر وقال آخر:

فَإنَّما قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَه ثُــمَّ تَعُودُ بَعْدَها في الْحافِرَه

الإِعراب: جواب القسم محذوف على تقدير ليبعثن وقبل الجواب في أن في ذلك لعبرة يوم ترجف الراجفة نصب باذكر وإن شئت كان نصباً بمدلول قوله { قلوب يومئذٍ واجفة } على تقدير يوم ترجف الراجفة رجفت قلوبهم ويكون يومئذٍ بدلاً من يوم ترجف الراجفة.
المعنى: { والنازعات غرقاً } اختلف في معناها على وجوه أحدها: أنه يعني الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدى وروي ذلك عن علي (ع) ومقاتل وسعيد بن جبير وقال مسروق: هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم. وقيل: هو الموت ينزع النفوس عن مجاهد وروي ذلك عن الصادق (ع) وثانيها: أنها النجوم تنزع من أفق إلى أفق أي تطلع وتغيب عن الحسن وقتادة وأبي عبيدة والأخفش والجبائي قال أبو عبيدة: تنزع من مطالعها وتغرق في مغاربها.
وثالثها: النازعات القسي تنزع بالسهم والناشطات الأزهاق عن عطاء وعكرمة وعلى هذا فالقسم بفاعلها وهم الغزاة المجاهدون في سبيل الله.
{ والناشطات نشطاً } في معناها أقوال أحدها: ما ذكرناه وثانيها: أنها الملائكة تنشط أرواح الكفار بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافهم بالكرب والغم عن علي (ع) والنشط الجذب يقال نشطت الدلو نشطاً نزعته وثالثها: أنها الملائكة تنشط أنفس المؤمنين فتقبضها كما تنشط العقال من يد البعير إذا حلَّ عنها عن ابن عباس وحكى الفراء هذا القول ثم قال والذي سمعت من العرب أن يقولوا كأنما أنشط من عقال ونشطت الحبل ربطته وأنشطته حللته.
ورابعها: أنها أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت إلا عرضت عليه الجنة قبل أن يموت فيرى موضعه فيها وأزواجه من الحور العين فنفسه تنشط أن تخرج عن ابن عباس أيضاً.
وخامسها: أنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب يقال حمار ناشط عن قتادة والأخفش والجبائي.
{ والسابحات سبحاً } فيها أقوال أحدها: أنها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلاً رفيقاً ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشيء في الماء يرمي به عن علي (ع) والكلبي.
وثانيها: أنها الملائكة ينزلون من السماء مسرعين وهذا كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه عن مجاهد وأبي صالح.
وثالثها: أنها النجوم تسبح في فلكها عن قتادة والجبائي. وقيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها كقوله { والعاديات ضبحاً } عن أبي مسلم. وقيل: هي السفن تسبح في الماء عن عطاء.
{ فالسابقات سبقاً } فيها أقوال أيضاً أحدها: أنها الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير والإِيمان والعمل الصالح عن مجاهد. وقيل: إنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء. وقيل: إنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة عن علي (ع) ومقاتل.
وثانيها: أنها أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقاً إلى رحمة الله ولقاء ثوابه وكرامته عن ابن مسعود.
وثالثها: أنها النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير عن قتادة والجبائي.
ورابعها: أنها الخيل يسبق بعضها بعضاً في الحرب عن عطاء وأبي مسلم.
{ فالمدبرات أمراً } فيها أقوال أيضاً: أحدها: أنها الملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة عن علي (ع) وثانيها: أن المراد بذلك جبرائيل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم السلام يدبّرون أمور الدنيا فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم عن عبد الرحمن بن سابط.
وثالثها: أنها الأفلاك يقع فيها أمر الله تعالى فيجري بها القضاء في الدنيا رواه علي بن إبراهيم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي عدَّدها. وقيل: تقديره ورب النازعات وما ذكر بعدها وهذا ترك للظاهر بغير دليل وقد قال الباقر والصادق (ع) إن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلا به والوجه في ذلك أنه سبحانه يقسم بخلقه للتنبيه على موضع العبرة فيه لأن القسم يدل على عظم شأن المقسم به وجواب القسم محذوف فكأنه سبحانه أقسم فقال وهذه الأشياء لتبعثن ولتحاسبن.
{ يوم ترجف الراجفة } يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض { تتبعها الرادفة } يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى وهي التي يبعث معها الخلق وهو كقوله
{ { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [الزمر: 68] ويوم منصوب على معنى { قلوب يومئذٍ واجفة } يوم ترجف الراجفة ومعنى الواجفة الشديدة الاضطراب أيضاً وهذا معنى قول الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: معناه يوم تضطرب الأرض اضطراباً شديداً وتحرك تحركاً عظيماً يعني يوم القيامة تتبعها الرادفة أي اضطرابة أخرى كائنة بعد الأولى في موضع الردف من الراكب فلا تزال تضطرب حتى تفنى كلها. وقال ابن عباس: معنى الواجفة خائفة والمراد بذلك أصحاب القلوب يعني أنها قلقة غير هادئة ولا ساكنة لما عاينت من أهوال يوم القيامة.
{ أبصارها خاشعة } أي ذليلة من هول ذلك اليوم قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإسلام { يقولون أءنا لمردودون في الحافرة } أي يقول هؤلاء المنكرون للبعث من مشركي قريش وغيرهم في الدنيا إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا والحافرة عند العرب اسم لأول الشيء وابتداء الأمر قال ابن عباس والسدي الحافرة الحياة الثانية. وقيل: الحافرة الأرض المحفورة والمعنى أزد من عبورنا بعد موتنا أحياء.
{ أإذا كنا عظاماً نخرة } أي بالية مفتتة والمعنى أنهم أنكروا البعث فقالوا أنرد أحياء إذا متنا وتفتتت عظامنا يقال نخر العظم ينخر فهو ناخر.
{ قالوا تلك إذاً كرة خاسرة } أي قال الكفار تلك الكرة الكائنة بعد الموت كرة خسران ومعناه أن أهلها خاسرون لأنهم نقلوا من نعيم الدنيا إلى عذاب النار والخاسر الذاهب رأس ماله وإنما قالوا كرة خاسرة على معنى أنه لا يجيء منها شيء كالخسران الذي لا يجيء منه فائدة فكأنهم قالوا هي كالخسران بذهاب رأس المال لا تجيء به تجارة فكذلك لا تجيء بتلك الكرة حياة. وقيل: معناه إن كان الأمر على ما يقوله محمد من أنا نبعث ونعاقب فتلك كرة ذات خسران علينا.
ثم أعلم سبحانه سهولة البعث عليه فقال { فإنما هي } يعني النفخة الأخيرة { زجرة واحدة } أي صيحة واحدة من إسرافيل يسمعونها وهم أموات في بطون الأرض فيحيون وهو قوله { فإذا هم بالساهرة } وهي وجه الأرض وظهرها عن الحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم. وقيل: إنما سميت الأرض ساهرة لأن عملها في النبت في الليل والنهار دائب ولذلك قيل خير المال عين خرّارة في أرض خوّارة تسهر إذا نمت وتشهد إذا غبت ثم صارت اسماً لكل أرض. وقيل: المراد بذلك عرصة القيامة لأنها أول مواقف الجزاء وهم في سهر لا نوم فيه.