التفاسير

< >
عرض

فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ
٢٤
أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً
٢٥
ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً
٢٦
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً
٢٧
وَعِنَباً وَقَضْباً
٢٨
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً
٢٩
وَحَدَآئِقَ غُلْباً
٣٠
وَفَاكِهَةً وَأَبّاً
٣١
مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٢
فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ
٣٣
يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
٣٤
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
٣٥
وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
٣٦
لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
٣٧
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ
٣٨
ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ
٣٩
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ
٤٠
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ
٤١
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ
٤٢
-عبس

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة أنا صببنا بالفتح والباقون بالكسر وفي الشواذ قراءة ابن محيصن يعنيه بالعين وفتح الياء.
الحجة: قال أبو علي من كسر كان ذلك تفسيراً للنظر إلى طعامه كما أن قوله
{ { لهم مغفرة } [المائدة: 9] تفسير للوعد ومن فتح فقال أنا فالمعنى على البدل بدل الاشتمال لأن هذه الأشياء مشتملة على كون الطعام وحدوثه فهو من نحو { { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [البقرة: 217] و { { قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود } [البروج: 4] وقوله { { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } [الكهف: 63] لأن الذكر كالمشتمل على المذكور ومعنى إلى طعامه إلى كون طعامه وحدوثه وهو موضع الاعتبار قال ابن جني: قوله يعنيه بالعين قراءة حسنة إلا أن قراءة الجماعة أقوى معنى فإن الإنسان قد يعنيه الشيء ولا يغنيه عن غيره ألا ترى أن من كان له ألف درهم فيؤخذ منها مائة درهم يعنيه أمرها ولا يغنيه عن بقية ماله أن يهتم به ويراعيه فأما إذا أغناه الأمر عن غيره فإنَّ ذلك أقوى فاعرفه.
اللغة: الحديقة البستان المحوط وجمعه حدائق ومنه قولهم أحدق به القوم إذا أحاطوا به والغلب الغلاظ شجرة غلباء غليظة قال الفرزدق:

عَـــوى فَأَثارَ أَغْلَـبَ ضَيْغَمِيّاً فَوَيْلَ ابْنَ الْمَراغَهَ مَا اسْتَثارا

والأبُّ المرعى من الحشيش وسائر النبات الذي ترعاه الأنعام والدواب ويقال أب إلى سيفه فاستله أي بدر إليه وهب إليه فيكون كبدور المرعى بالخروج قال الأعشى:

صَرَمْتُ وَلَمْ أْصْرِمْكُمُ وَكَصارِمٍ أَخٌ قَــدْ طـَوى كَشْحاً وَأَبَّ لِيَذْهَبَا

وقال في الأبّ:

جِذْ مُنا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دارُنا وَلَنَا الأَبُّ بِها وَالْمَكْرَعُ

والصاخة الصاكة لشدة صوتها الآذان فتصمها والقترة ظلمة الدخان ومنه القتار ريح الشواء لأنها كالدخان.
الإعراب: { فإذا جاءت الصاخة } العامل في الظرف في قوله { لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه } أي ثبت لكل امرىءٍ منهم ذلك في وقت مجيء الصاخة.
المعنى: لمّا ذكر سبحانه خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال { فلينظر الإنسان إلى طعامه } الذي يأكله ويتقوته من الأطعمة الشهية اللذيذة كيف خلقها سبحانه وهيَّأها لرزق عباده ليفكر كيف مكَّنه من الانتفاع بذلك.
ثم بيَّن فقال { أنا صببنا الماء صبّاً } أي نزلنا الغيث إنزالاً { ثم شققنا الأرض شقاً } بالنبات { فأنبتنا فيها } أي في الأرض { حباً } أي جنس الحبوب التي تغذى بها وتدخر { وعنباً } خصَّ العنب لكثرة منافعه { وقضباً } وهو القت الرطب يقضب مرة بعد أخرى يكون علفاً للدواب عن ابن عباس والحسن { وزيتوناً } وهو ما يعصر عنه الزيت { ونخلاً } جمع نخلة { وحدائق غلباً } أي وبساتين محوطة تشتمل على أشجار عظام غلاظ مختلفة. وقيل: غلباً ملتفة الشجر عن مجاهد { وفاكهة } يعني سائر ألوان الفواكه { وأبّاً } وهو المرعى والكلأ الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الأنعام. وقيل: أن الأب للأنعام كالفاكهة للناس.
{ متاعاً } أي منفعة { لكم ولأنعامكم } مرَّ معناه ثم ذكر يوم القيامة فقال { فإذا جاءت الصاخة } يعني صيحة القيامة عن ابن عباس سميت بذلك لأنها تصخ الآذان أي تبالغ في أسماعها حتى تكاد تصمها. وقيل: لأنها يصخ لها الخلق أي يستمع وقد قلب حرف التضعيف ياء لكراهية التضعيف فقالوا صاخ كما قالوا تظنيت في تظننت وتَقَضّيَ البازِي في تقضض.
ثم ذكر سبحانه في أيّ وقت تجيء الصاخة فقال { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته } أي وزوجته { وبنيه } أي أولاده الذكور أي لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لعظم ما هو فيه وشغله بنفسه وإن كان في الدنيا يعتني بشأنهم. وقيل: يفرُّ منهم حذراً من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم قيل لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئاً ويجوز أن يكون مؤمناً وأقرباؤه من أهل النار لعاديهم ولا يلتفت إليهم أو يفرّ منهم لئلا يرى ما نزل بهم من الهوان.
{ لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } أي لكل إنسان منهم أمر عظيم يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم ومعنى يغنيه يكفيه من العبادة عليه أي ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الأمر الذي قد اكتنفه وملأ صدره فصار كالغني عن الشيء في أمر نفسه لا ينازع إليه وروي عن عطاء بن يسار عن سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يبعث الناس عراة حفاة غرلاً يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الأذان قالت: قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض قال: شغل الناس عن ذلك" وتلا رسول الله { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } ثم قسَّم سبحانه أحوال الناس في ذلك اليوم فقال { وجوه يومئذ مسفرة } أي مشرقة مضيئة { ضاحكة مستبشرة } من سرورها وفرحها بما أعدَّ لها من الثواب وأراد بالوجوه أصحاب الوجوه { ووجوه يومئذ عليها غبرة } أي سواد وكآبة للهم { ترهقها } أي تعلوها وتغشاها { قترة } أي سواد أو كسوف عند معاينة النار. وقيل: إن الغبرة ما انحطت من السماء إلى الأرض والقترة ما ارتفعت من الأرض إلى السماء عن زيد بن أسلم { أولئك هم الكفرة } في أديانهم { الفجرة } في أفعالهم واستدلت الخوارج بذلك على أن من ليس بمؤمن لا بدَّ أن يكون كافراً فإن الله سبحانه قسم الوجوه هذين القسمين ولا تعلق لهم به لأنه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين وجوه المؤمنين ووجوه الكفار ولم يذكر وجوه الفساق من أهل الصلاة فيجوز أن يكون لها صفة أخرى بأن يكون عليها غبرة لا تغشاها قترة أو يكون عليها صفرة أو لون آخر.