التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ
١
وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ
٢
وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ
٣
وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ
٤
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
٥
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ
٦
ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
٧
فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
٨
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ
٩
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
١٠
كِرَاماً كَاتِبِينَ
١١
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
١٢
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
١٣
وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
١٤
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ
١٥
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ
١٦
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٧
ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٨
يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
١٩
-الانفطار

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر فعدلك خفيفة والباقون بالتشديد وقرأ أبو جعفر بل يكذبون بالياء والباقون بالتاء وقرأ ابن كثير وأهل البصرة { يوم لا تملك } بالرفع والباقون بالنصب وفي الشواذ قراءة سعيد بن جبير ما أغرك بربك.
الحجة: أما عدلك بالتشديد فمعناه عدل خلقك فأخرجك في أحسن تقويم وأما عدلك بالتخفيف فمعناه عدل بعضك ببعض فكنت معتدل الخلقة متناسبها فلا تفاوت فيها وقوله { يكذبون } بالياء يكون إخباراً عن الكفار وبالتاء على خطابهم وأما وجه الرفع في قوله { يوم لا تملك نفس } أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا تملك والمعنى يوم الدين يوم لا تملك نفس.
وأما النصب فإنه لما قال { وما أدراك ما يوم الدين } فجرى ذكر الدين وهو الجزاء قال يوم لا تملك يعني الجزاء يوم لا تملك نفس فصار يوم لا تملك خبر الجزاء المضمر لأنه حدث وتكون أسماء الزمان إخباراً عن الحدث ويجوز النصب على وجه آخر وهو أن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفاً ترك على ما كان يكون عليه في أكثر أمره والدليل على ذلك ما اجتمع عليه القراء والعرب في قوله تعالى
{ { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } [الجن: 11] ومما يقوي النصب في ذلك قوله { { وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس } [القارعة: 2, 3] وقوله { { يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون } [الذاريات: 11] فالنصب في يوم لا تملك نفس مثل هذا ونحوه قال أبو الحسن: ولو رفع ذلك كله كان جيداً إلا أنا نختار ما عليه الناس.
وأما من قرأ ما أغرَّك فيجوز أن يكون معناه ما الذي دعاك إلى الاغترار به ويجوز أن يكون تعجباً وقد قيل في قوله
{ { فما أصبرهم على النار } [البقرة: 175] هذان الوجهان وأغرك يجوز أن يكون من الغر والغرارة فيكون معناه ما أجهلك وما أغفلك عما يراد بك ويجوز أن يكون من الغرور على غير القياس كما قيل في المثل أشغل من ذات النحيين.
اللغة: الانفطار والانشقاق والانصداع نظائر والانتثار تساقط الشيء في الجهات والتفجير خرق بعض مواضع الماء إلى بعض على التكثير ومنه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب ومنه الفجر لانفجاره بالضياء وبعثرت الحوض وبحثرته إذا جعلت أسفله أعلاه والبعثرة والبحثرة إثارة الشيء بقلب باطنه إلى ظاهره والغرور ظهور أمر يتوهم به جهلاً الأمان من المحذور يقال غره غروراً واغتره اغتراراً قال الحرث بن حلزة:

لَمْ يُغَـرُّوكُمُ غُـرُوراً وَلكِنْ رَفَعَ الآلُ جَمْعَهُمْ وَالضَّحاءُ

الإعراب: قوله { في أيّ صورة ما شاء } يجوز أن تكون ما مزيدة مؤكَّدة والمعنى في أيّ صورة شاء ركَّبك إما طويلاً وإما قصيراً وإما كذا وكذا يكون ركبك عطفاً على عدلك فحذف الواو ويجوز أن يكون ما في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أيّ صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك ولا يكون على هذا قوله في أي صورة من صلة ركبك لأن سيبويه قال إن تضرب زيداً أضرب عمراً ولا يجوز تقديم عمرو على أن فوجب أن يكون قوله في أيّ صورة من صلة مضمر ولا يكون من صلة عدلك لأنه استفهام فلا يعمل فيه ما قبله. يصلونها في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون في موضع رفع فيكون خبراً لأنه خبر بعد خبر والتقدير إن الفجار في جحيم صالون.
المعنى: { إذا السماء انفطرت } أي انشقت وتقطعت ومثله
{ { يوم تشقق السماء بالغمام } [الفرقان: 25] الآية { وإذا الكواكب انتثرت } أي تساقطت وتهافتت قال ابن عباس: سقطت سوداً لا ضوء لها { وإذا البحار فجرت } أي فتح بعضها في بعض عذبها في ملحها وملحها في عذبها فصارت بحراً واحداً عن قتادة والجبائي. وقيل: معناه ذهب ماؤها عن الحسن { وإذا القبور بعثرت } أي قلب ترابها وبعث الموتى الذين فيها. وقيل: معناه بحثت عن الموتى فأخرجوا منها يريد عند البعث عن ابن عباس ومقاتل.
{ علمت نفس ما قدمت وأخرت } وهذا كقوله سبحانه
{ { ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدَّم وأخر } [القيامة: 13] وقد مرَّ ذكره عن عبد الله بن مسعود قال ما قدمت من خير أو شر وما أخرت من سنة حسنة أستنَّ بها بعده فله أجر من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء أو سنة سيئة عمل بها بعده فعليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ويؤيد هذا القول ما جاء في الحديث أن سائلاً قام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل فسكت القوم ثم إن رجلاً أعطاه فأعطاه القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من استن خيراً فاستنَّ به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم ومن استنَّ شرًّا فاستنَّ به فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم" قال فتلا حذيفة بن اليمان { علمت نفس ما قدمت وأخرت }
{ يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } أي أيّ شيء غرَّك بخالقك وخدعك وسوَّل لك الباطل حتى عصيته وخالفته وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية قال:
"غرَّه جهله" واختلف في معنى الكريم فقيل هو المنعم الذي كل أفعاله إحسان وإنعام لا يجرّ به نفعاً ولا يدفع به ضرراً. وقيل: هو الذي يعطي من عليه وما ليس عليه ولا يطلب ماله. وقيل: هو الذي يقبل اليسير ويعطي الكثير. وقيل: إن من كرمه سبحانه أنه لم يرض بالعفو عن السيئات حتى بدَّلها بالحسنات.
وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه فقال { ما غرَّك بربك الكريم } ماذا كنت تقول له قال أقول غرّني ستورك المرخاة وقال يحيى بن معاذ: لوأقامني الله بين يديه فقال ما غرَّك بي قلت غرَّني بك برُّك بي سالفاً وآنفاً وعن بعضهم قال غرَّني حلمك وعن أبي بكر الوراق غرَّني كرم الكريم وإنما قال سبحانه الكريم دون سائر أسمائه وصفاته لأنه كأنه لقِّنه الإجابة حتى يقول غرَّني كرم الكريم وقال عبد الله بن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة فيقول يا بن آدم ما غرَّك بي يا بن آدم ماذا عملت فيما عملت يا بن آدم ماذا أجبت المرسلين وقال أمير المؤمنين (ع): كم مغرور بالستر عليه ومستدرج بالإحسان إليه { الذي خلقك } من نطفة ولم تك شيئاً { فسوّاك } إنساناً تسمع وتبصر { فعدلك } أي جعلك معتدلاً. وقيل: معناه عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين عن مقاتل والمعنى عدل بين ما خلق لك من الأعضاء التي في الإنسان منها اثنان لا تفضل يد على يد ولا رجل على رجل.
{ في أيّ صورة ما شاء ركبك } أي في أيّ شبه من أب أو أم أو خال أو عم عن مجاهد وروي عن الرضا (ع) عن آبائه
"عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: ما ولد لك قال يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية قال: فمن يشبه قال: يشبه أمه وأباه فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت هذه الآية { في أيّ صورة ما شاء ركبك } أي فيما بينك وبين آدم" . وقيل: في أيّ صورة ما شاء من صور الخلق ركبك إن شاء في صورة إنسان وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة قرد عن عكرمة وأبي صالح.
وقال الصادق (ع): لو شاء ركبك على غير هذه الصورة والمعنى أنه سبحانه يقدر على جعلك كيف شاء ولكنه خلقك في أحسن تقويم حتى صرت على صورتك التي أنت عليها لا يشبهك شيء من الحيوان. وقيل: في أيّ صورة شاء من ذكر أو أنثى أو جسيم أو نحيف حسن أو دميم طويل أو قصير.
{ كلا } أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا حساب وليس هنا موضع الإنكار للبعث مع وضوح الأمر فيه وقيام الدلالة عليه { بل تكذبون } معاشر الكفار { بالدين } الذي هو الجزاء لإنكاركم البعث والنشور عن مجاهد وقتادة. وقيل: تكذبون بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام عن الجبائي { وإن عليكم لحافظين } من الملائكة يحفظون عليكم ما تعلمونه من الطاعات والمعاصي.
ثم وصف الحفظة فقال { كراماً } على ربهم { كاتبين } يكتبون أعمال بني آدم { يعلمون ما تفعلون } من خير وشرّ فيكتبونه عليكم لا يخفى عليهم من ذلك شيء. وقيل: إن الملائكة تعلم ما يفعله العبد إما باضطرار وإما باستدلال. وقيل: معناه يعلمون ما تفعلون من الله دون الباطن وفي هذا دلالة على أن أفعال العبد حادثة من جهتهم وأنهم المحدثون لها دونه تعالى وإلا فلا يصح قوله تفعلون.
{ إن الأبرار لفي نعيم } وهو الجنة والأبرار أولياء الله المطيعون في الدنيا { وإن الفجار لفي جحيم } وهو العظيم من النار والمراد بالفجار هنا الكفار المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله { يصلونها يوم الدين } أي يلزمونها بكونهم فيها { وما هم عنها بغائبين } أي لا يكونون غائبين عنها بل يكونون مؤبدين فيها وقد دلَّ الدليل على أن أهل الكبيرة من المسلمين لا يخلدون في النار ولأنه سبحانه قد ذكر المكذبين بالدين فيما قبل هذه الآية فالأولى أن تكون لفظة الفجار مخصوصة بهم وأيضاً فإذا احتمل الكلام ذلك بطل تعلق أهل الوعيد بعموم اللفظ.
ثم عظم سبحانه يوم القيامة فقال { وما أدراك ما يوم الدين } تعظيماً له لشدته وتنبيهاً على عظم حاله وكثرة أهواله { ثم ما أدراك ما يوم الدين } كرَّره تأكيداً لذلك. وقيل: أراد ما أدراك ما في يوم الدين من النعيم لأهل الجنة وما أدراك ما في يوم الدين من العذاب لأهل النار عن الجبائي { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } أي لا يملك أحد الدفاع عن غيره ممن يستحق العقاب كما يملك كثير من الناس في دار الدنيا ذلك { والأمر يومئذٍ لله } وحده أي الحكم له في الجزاء والثواب والعفو والانتقام.
وروى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (ع) أنه قال: إن الأمر يومئذٍ واليوم كله لله يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله. وقيل: معناه يوم لا تملك نفس لنفس كافرة شيئاً من المنفعة عن مقاتل والمعنى الصحيح في الآية أن الله سبحانه قد ملك في الدنيا كثيراً من الناس أموراً وأحكاماً وفي القيامة لا أمر لسواه ولا حكم ومتى قيل فيجب أن لا يصح على هذا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فالجواب أن ذلك لا يكون إلا بأمره تعالى وبإذنه وهو من تدابيره.