التفاسير

< >
عرض

سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ
٢
وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ
٣
وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ
٤
فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ
٥
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ
٦
إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ
٧
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ
٨
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ
٩
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
١٠
وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى
١١
ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ
١٢
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
١٣
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ
١٤
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ
١٥
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٧
إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ الكسائي قدر بالتخفيف وهو قراءة علي (ع) والباقون قدر بالتشديد وقرأ أبو عمرو وروح وزيد وقتيبة يؤثرون بالياء والباقون بالتاء.
الحجة: قد تقدَّم أن قدر في معنى قدر فكلا الوجهين حسن وتؤثرون بالتاء على الخطاب بل أنتم تؤثرون والياء على أنه يريد الأشقين وروي أن ابن مسعود والحسن قرآه.
اللغة: الأعلى نظير الأكبر ومعناه العالي بسلطانه وقدرته وكل من دونه في سلطانه ولا يقتضي ذلك المكان قال الفرزدق:

إنَّ الَّذي سَمَكَ السَّماءَ بَنى لنَا بَيْتـــاً دَعائِمُــهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

والغثاء ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات وأصله الأخلاط من أجناس شتى والعرب تسمي القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطاً وغثاء والأحوى الأسود والحوّة السواد قال ذو الرمة:

لَمْياءُ في شَفَتَيْها حُــوَّةٌ لَعَــسٌ وَفَي اللِثَّاتِ وَفي أَنْيابِها شَنَبُ

وقال:

قَرْحاءُ حَوَّءُ أًشْراطِيَّةٌ وَكَفَتْ فَيهَــا الذِّهابُ وَحَفَّتْها الْبَراعِيمُ

والإقراء أخذ القراءة على القارىء بالاستماع لتقويم الزلل والقارىء التالي وأصله الجمع لأنه يجمع الحروف والنسيان ذهاب المعنى عن النفس ونظيره السهو ونقيضه الذكر وهو ذهاب العلم الضروري بما جرت به العادة أن يعلمه وليس بمعنى وقال أبو علي الجبائي: وهو معنى من فعل الله تعالى.
الإعراب: الأعلى يحتمل أن يكون جرّاً صفة لرب وأن يكون نصباً صفة لاسم أحوى نصب على الحال من المرعى والتقدير أخرج المرعى أحوى أي أسود لشدة خضرته فجعله غثاء أي جففه حتى صار جافاً كالغثاء ويجوز أن يكون نعتاً لغثاء والتقدير فجعله عثاء أسود والأول أوجه وهو قول الزجاج { ما شاء الله } في موضع نصب على الاستثناء والتقدير سنقرؤك القرآن فلا تنساه إلا ما شاء الله أن تنساه برفع حكمه وتلاوته هو قول الحسن وقتادة. { إن نفعت الذكرى } شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله { فذكر } والتقدير إن نفعت الذكرى فذكرهم.
المعنى: { سبح اسم ربك الأعلى } أي قل سبحان ربي الأعلى عن ابن عباس وقتادة. وقيل: معناه نزّه ربك عن كل ما لا يليق به من الصفات المذمومة والأفعال القبيحة لأن التسبيح هو التنزيه لله عما لا يليق به يجوز أن تقول لا إله إلا هو فتنفي ما لا يجوز في صفته من شريك في عبادته مع الإقرار بأنه الواحد في إلهيته وأراد بالاسم المسمى. وقيل: إنه ذكر الاسم والمراد به تعظيم المسمى كما قال لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ويحسن بالقارىء إذا قرأ هذه الآية أن يقول سبحان ربي الأعلى وإن كان في الصلاة قال الباقر (ع): إذا قرأت { سبح اسم ربك الأعلى } فقل سبحان ربي الأعلى وإن كان فيما بينك وبين نفسك والأعلى معناه القادر الذي لا قادر أقدر منه القاهر لكل أحد. وقيل: الأعلى صفة الاسم والمعنى سبّح الله بذكر اسمه الأعلى وأسماؤه الحسنى كلها أعلى. وقيل: معناه صل باسم ربك الأعلى عن ابن عباس.
{ الذي خلق } الخلق { فسوى } بينهم في باب الإِحكام والإتقان. وقيل: خلق كل ذي روح فسوَّى يديه وعينيه ورجليه عن الكلبي. وقيل: خلق الإِنسان فعدل قامته عن الزجاج يعني أنه لم يجعله منكوساً كالبهائم والدواب. وقيل: خلق الأشياء على موجب إرادته وحكمته فسوّى صنعها لتشهد على وحدانيته.
{ والذي قدَّر فهدى } أي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات وأجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق والأقوات ثم هداهم إلى دينه بمعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات. وقيل: معناه قدر أقواتهم وهداهم لطلبها. وقيل: قدَّرهم على ما اقتضته حكمته فهدى أي أرشد كل حيوان إلى ما فيه منفعته ومضرته حتى أنه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمه وهدى الفرخ حتى طلب الزق من أبيه وأمه والدواب والطيور حتى فزع كل منهم إلى أمه وطلب الميمنة من جهته سبحانه وتعالى..
وقيل: قدرهم ذكوراً وإناثاً وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى عن مقاتل والكلبي. وقيل: هدى إلى سبيل الخير والشر عن مجاهد. وقيل: قدَّر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهدى للخروج منه للتمام عن السدي. وقيل: قدَّر المنافع في الأشياء وهدى الإِنسان لاستخراجها منه فجعل بعضها غذاء وبعضها دواء وبعضها سمّاً وهدى إلى ما يحتاج إلى استخراجها من الجبال والمعادن كيف تستخرج وكيف تستعمل.
{ والذي أخرج المرعى } أي أنبت الحشيش من الأرض لمنافع جميع الحيوان وأقواتهم { فجعله } بعد الخضرة { غثاء } أي هشيماً جافاً كالغثاء الذي تراه فوق السيل { أحوى } أي أسود بعد الخضرة وذلك أن الكلأ إذا يبس اسودَّ. وقيل: معناه أخرج العشب وما ترعاه النعم أحوى أي شديد الخضرة يضرب إلى السواد من شدة خضرته فجعله غثاء أي يابساً بعد ما كان رطباً وهو قوت البهائم في الحالين فسبحان من دبَّر هذا التدبير وقدَّر هذا التقدير. وقيل: إنه مثل ضربه الله تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها.
{ سنقرئك فلا تنسى } أي سنأخذ عليك قراءة القرآن فلا تنسى ذلك. وقيل: معناه سيقرأ عليك جبريل القرآن بأمرنا فتحفظه ولا تنساه قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبرائيل (ع) بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبرائيل عليه السلام من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئاً.
{ إلا ما شاء الله } أن ينسيكه بنسخه من رفع حكمه وتلاوته عن الحسن وقتادة وعلى هذا فالإِنشاء نوع من النسخ وقد مرّ بيانه في سورة البقرة عند قوله
{ { ما ننسخ من آية أو ننسها } [البقرة: 106] الآية. وقيل: معناه إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله عليك فلا تقرأه. وقيل: إلا ما شاء الله كالاستثناء في الإِيمان وإن لم يقع منه مشيئة النسيان قال الفراء: لم يشأ الله أن ينسى عليه السلام شيئاً فهو كقوله { { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ولا يشاء } [هود: 108] وكقول القائل لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت وإلا إن أشاء أن أمنعك والنية أن لا يمنعه ومثله الاستثناء في الإيمان ففي الآية بيان لفضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار أنه مع كونه صلى الله عليه وسلم أميّاً كان يحفظ القرآن وإن جبرائيل (ع) كان يقرأ عليه سورة طويلة فيحفظه بمرة واحدة ثم لا ينساه وهذه دلالة على الإعجاز الدالّ على نبوته.
{ إنه يعلم الجهر وما يخفى } معناه أن الله سبحانه يعلم العلانية والسرّ. والجهر رفع الصوت ونقيضه الهمس والمعنى أنه سبحانه يحفظ عليك ما جهرت به وما أخفيته مما تريد أن تعيه.
{ ونيسرك لليسرى } اليسرى هي الفعلى من اليسر وهو سهولة عمل الخير والمعنى نوفّقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية ونهون عليك الوحي ونسهله حتى تحفظه ولا تنساه وتعمل به ولا تخالفه. وقيل: معناه نسهل لك من الألطاف والتأييد ما يثبتك على أمرك ويسهل عليك المستصعب من تبليغ الرسالة والصبر عليه عن أبي مسلم وهذا أحسن ما قيل فيه فإنه يتصل بقوله { سنقرؤك فلا تنسى } فكأنه سبحانه أمره بالتبليغ ووعده النصر وأمره بالصبر. وقيل: إن اليسرى عبارة عن الجنة فهي اليسرى الكبرى أي نيسر لك دخول الجنة عن الجبائي.
{ فذكر } أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر الخلق ويعظهم { إن نفعت الذكرى } وإنما قال ذلك وذكراه تنفع لا محالة في عمل الإِيمان والامتناع من العصيان لأنه ليس بشرط حقيقة وإنما هو إخبار عن أنه ينفع لا محالة في زيادة الطاعة والانتهاء عن المعصية كما يقال سله إن نفع السؤال. وقيل: معناه عظهم إن نفعت الموعظة أو لم تنفع لأنه صلى الله عليه وسلم بعث للإعذار والإنذار فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع ولم يذكر الحالة الثانية كقوله
{ { سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم } [النحل: 81] وقد نبَّه الله سبحانه على تفصيل الحالتين بقوله { سيذكر من يخشى } أي سيتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويخاف عقابه.
{ ويتجنّبها } أي ويتجنّب الذكرى والموعظة { الأشقى } أي أشقى العصاة فإن للعاصين درجات في الشقاوة فأعظمهم درجة فيها الذي كفر بالله وتوحيده وعبد غيره.
وقيل: الأشقى من الاثنين من يخشى ومن يتجنب عن أبي مسلم { الذي يصلى النار الكبرى } أي يلزم أكبر النيران وهي نار جهنم والنار الصغرى نار الدنيا عن الحسن. وقيل: إن النار الكبرى هي الطبقة السفلى من جهنم عن الفراء.
{ ثم لا يموت فيها } فيستريح { ولا يحيى } حياة ينتفع بها بل صارت حياته وبالاً عليه يتمنى زوالها لما هو معها من فنون العقاب وألوان العذاب. وقيل: ولا يحيى أي ولا يجد روح الحياة.
{ قد أفلح من تزكى } أي قد فاز من تطهر من الشرك وقال لا إله إلا الله عن عطاء وعكرمة. وقيل: معناه قد ظفر بالبغية من صار زاكياً بالأعمال الصالحة والورع عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: زكى أي أعطى زكاة ماله عن ابن مسعود وكان يقول قد رحم الله امرأ تصدق ثم صلى ويقرأ هذه الآية. وقيل: أراد صدقة الفطرة وصلاة العيد عن أبي عمرو وأبي العالية وعكرمة وابن سيرين وروي ذلك مرفوعاً عن أبي عبد الله (ع) ومتى قيل على هذا القول كيف يصح ذلك والسورة مكية ولم يكن هناك صلاة عيد ولا زكاة ولا فطرة قلنا يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكة وختمت بالمدينة.
{ وذكر اسم ربه فصلى } أي وحد الله عن ابن عباس. وقيل: ذكر الله بقلبه عند صلاته فرجاً ثوابه وخاف عقابه فإن الخشوع في الصلاة بحسب الخوف والرجاء. وقيل: ذكر اسم ربه بلسانه عند دخوله في الصلاة فصلى بذلك الاسم أي قال الله أكبر لأن الصلاة لا تنعقد إلا به. وقيل: هو أن يفتتح ببسم الله الرحمن الرحيم ويصلي الصلوات الخمس المكتوبة ثم قال سبحانه مخاطباً للكفار.
{ بل تؤثرون } أي تختارون { الحياة الدنيا } على الآخرة فتعملون لها وتعمرونها ولا تتفكرون في أمر الآخرة. وقيل: هو عام في المؤمن والكافر بناء على الأعم الأغلب في أمر الناس قال عبد الله بن مسعود: إن الدنيا اخضرت لنا وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذتها وبهجتها وإن الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.
ثم رغَّب سبحانه في الآخرة فقال { والآخرة } أي والدار الآخرة وهي الجنة { خير } أي أفضل { وأبقى } وأدوم من الدنيا وفي الحديث:
"من أحبَّ آخرته أضرَّ بدنياه ومن أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته" { إن هذا لفي الصحف الأولى } يعني إن هذا الذي ذكر من قوله { قد أفلح } إلى أربع آيات لفي الكتب الأولى التي أنزلت قبل القرآن ذكر فيها فلاح المصلي والمتزكي وإيثار الخلق الدنيا على الآخرة وأن الآخرة خيرٌ. وقيل: معناه أن من تزكى وذكر اسم ربه فصلى فهو ممدوح في الصحفا الأولى كما هو ممدوح في القرآن.
ثم بيَّن سبحانه أن الصحف الأولى ما هي فقال { صحف إبراهيم وموسى } وفي هذا دلالة على أن إبراهيم كان قد أنزل عليه الكتاب خلافاً لمن يزعم أنه لم ينزل عليه كتاب وواحدة الصحف صحيفة.
وروي عن أبي ذر أنه قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء فقال:
"مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً قلت يا رسول الله كم المرسلون منهم قال ثلاثمائة وثلاتة عشر وبقيتهم أنبياء قلت كان آدم (ع) نبياً قال: نعم كلَّمه الله وخلقه بيده يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب هود وصالح وشعيب ونبيك قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب قال: مائة وأربعة كتب أنزل الله منها على آدم (ع) عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان" وفي الحديث: "أنه كان في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه" . وقيل: إن كتب الله كلها أنزلت في شهر رمضان.