التفاسير

< >
عرض

وَٱلْفَجْرِ
١
وَلَيالٍ عَشْرٍ
٢
وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ
٣
وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ
٤
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
٥
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
٦
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ
٧
ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ
٩
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ
١٠
ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١١
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ
١٢
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
١٣
إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ
١٤
فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ
١٥
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ
١٦
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
٢٥
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
٢٦
يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ
٢٧
ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
٢٨
فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي
٢٩
وَٱدْخُلِي جَنَّتِي
٣٠
-الفجر

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم والوتر بكسر الواو والباقون بالفتح وقرأ أبو جعفر وابن عامر فقدر بالتشديد والباقون بالتخفيف وقرأ لا يكرمون بالياء وكذلك ما بعده أهل البصرة والباقون بالتاء وقرأ لا تحاضون أهل الكوفة وأبو جعفر وقر لا يعذب ولا يوثق بالفتح الكسائي ويعقوب وسهل والباقون لا يعذب ولا يوثق وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي والليل إذا يسري بإثبات الياء في الوصل وحذفها في الوقف وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف والباقون بالحذف فيهما وقرأ القواس والبزي ويعقوب بالوادي بإثبات الياء في الوصل والوقف وورش بإثباتها في الوصل وحذفها في الوقف والباقون بحذفها في الوصل والوقف.
وقرأ أهل المدينة أكرمني وأهانني بإثبات الياء في الوصل وحذفها في الوقف والقواس والبزي ويعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف وأبو عمرو لا يبالي كيف قرأ بالياء وغير الياء وروى العياشي عنه بحذف الياء من غير تخيير والباقون بحذف الياء في الحرفين في الوصل والوقف وفي الشواذ قراءة ابن عباس بعادِ أَرَمَّ ذات العماد وروي ذلك عن الضحاك أيضاً وقرءة ابن عباس وعكرمة والضحاك وابن السميفع فادخلي في عبدي.
الحجة: قال أبو علي: حدثنا محمد بن السري أن الأصمعي قال: لكل فرد وتر وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد ويكسرون الوتر في الذَحْل وقيس وتميم يسوونهما في الكسر ويقولون في الوتر الذي هو الإفراد أوترت وأنا أوتر إيتاراً أي جعلت أمري وتراً وفي الذحل وترته أتره وِتْراً وتِرَةً قال أبو بكر: وترته في الذحل إنما هو أفردته من أهله وماله ومن قرأ يكرمون وما بعده بالياء فلما تقدم من ذكر الإنسان والمراد به الجنس والكثرة على لفظ الغيبة ولا يمتنع في هذه الأشياء الدالة على الكثرة أن يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى أخرى ومن قرأ بالتاء فعلى معنى قل لهم ذلك ومعنى لا تحضون على طعام المسكين لا تأمرون به ولا تبعثون عليه ولا تحاضون تتفاعلون منه وقوله { لا يُعذّب عذابه أحد } [الفجر: 25] معناه لا يعذب تعذيبه فوضع العذاب موضع التعذيب كما وضع العطاء موضع الإعطاء في قوله:

وبَعْـــدَ عَطائِـكَ المَائــةَ الرِّتاعـا

فالمصدر الذي هو عذاب مضاف إلى المفعول به مثل دعاء الخير والمفعول به الإنسان المتقدم ذكره في قوله { { يوم يتذكر الإنسان } [النازعات: 35] والوصاق أيضاً موضع الإيثاق فأما من قرأ لا يعذّب فقد قيل إن المعنى فيه أنه لا يتولى عذاب الله تعالى يومئذٍ أحد والأمر يومئذٍ أمره ولا أمر لغيره هذا قول وقد قيل أيضاً لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الله في الآخرة وكأن الذي حمل قائل هذا القول على أن قاله إنه إن حمله على ظاهره كان المعنى لا يعذب أحد في الآخرة مثل عذاب الله ومعلوم أنه لا يعذب أحد في الآخرة مثل عذاب الله إنما المعذب الله تعالى فعدل عن الظاهر لذلك.
ولو قيل: إن المعنى فيومئذٍ لا يعذب أحد أحداً تعذيباً مثل تعذيب الكافر المتقدم ذكره فأضيف المصدر إلى المفعول به كما أضيف إليه في القراءة الأولى ولم يذكر الفاعل كما لم يذكره في مثل قوله تعالى من دعاء الخير لكان المعنى في القراءتين سواء والذي يرد بأحد الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار ويكون ذلك كقوله
{ { يوم يسحبون في النار على وجوههم } [القمر: 48] وقوله { { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [محمد: 27] وقوله { { ولهم مقامع من حديد } [الحج: 21] لا شبهة أن يكون هذا القول أولى والفاعل له هم الملائكة.
قال: ووجه قول من قال يسري بالياء وصل أو وقف أن الفعل لا يحذف منه في الوقف كما يحذف من الأسماء نحو قاض وغاز فتقول هو يقضي وأنا أقضي فتثبت الياء ولا تحذف كما تحذف من الاسم نحو هذا قاض وليس إثبات الياء بالأحسن في الوقف من الحذف وذلك أنها فاصلة وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه أن لا يحذف نحو القاضي بالألف واللام يحذف إذا كان في قافية أو فاصلة.
قال سيبويه: والفاصلة نحو والليل إذا يسر ويوم التناد والكبير المتعال فإذا كان شيء من ذلك في كلام تام شبه بالفاصلة فحسن حذفها نحو قوله
{ { ما كنا نبغ } [الكهف: 64] فإن قلت كيف كان الاختيار فيه أن يحذف إذا كان في فاصلة أو قافية وهذه الحروف من أنفس الكلم وهلا لم يستحسن حذفها كما أثبت سائر الحروف ولم يحذف والقول في ذلك إن الفواصل والقوافي في مواضع الوقف والوقف موضع تغير فلما كان الوقف تغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان وروم الحركة غيرت فيه هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف ألا ترى أن النداء لما كان في موضع حذف بالترخيم والحذف للحروف الصحيحة ألزموا الحذف في أكثر الكلام للحرف المتغير وهو تاء التأنيث فكذلك ألزم الحذف في الوقف لهذه الحروف المتغيرة فجعل تغييرها الحذف ولما يراع فيها ما روعي في الحروف الصحيحة فسوّوا بينها وبين الزائد في الحذف للجزم نحو لم يغزو ولم يرم ولم يخش وأجروها مجرى الزائد في الإطلاق نحو:

وبَعْضَ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْــري

وما يمر وما يحلو كما قالوا:

أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ دَهْــرِ

فلذلك اختير فيها الحذف في الفواصل والقوافي وكذلك قوله { جابوا الصخر بالواد } الأوجه فيه الحذف إذا كانت فاصلة وإن كان الأحسن إذا لم تكن فاصلة الإثبات ومن قرأ في الوصل يسري بالياء وفي الوقف بغير ياء فإنه ذهب إلى أنه إذا لم يقف عليها صار بمنزلة غيرها من المواضع التي لا يوقف عليها فلم تحذف من الفاصلة إذا لم يقف عليها كما لم يحذف من غيرها وحذفها إذا وقف عليها من أجل الوقف.
ومن قرأ أكرمن وأهانن بغير ياء في وصل ولا وقف فهو كمن قرأ يسر في الوصل والوقف لأن ما قبلها كسرة في فاصلة ومن قرأهما بياء في الوصل كمثل من قرأ يسري في الوصل بإثبات الياء وبحذفها في الوقف ورواية سيبويه عن أبي عمرو أنه قرأ ربي أكرمن وربي أهانن على الوقف ومن قرأ أرَّمَ ذات العماد فالمعنى جعلها رميماً رمت هي واسترمت وأرمها غيرها قال ابن جني: وأما القراءة بعادٍ ارمِ فعلى أنه أراد أهل ارم هذه المدينة فحذف المضاف وهو يريده كقوله تعالى
{ { بزينة الكواكب } [الصافات: 6] أي بزينة الكواكب قال وقوله { في عبدي } لفظه لفظ الواحد ومعناه الجمع أي عبادي وذلك أنه جعل عبادي كالواحد أي لا خلاف بينهم في عبوديته كما لا يخالف الإنسان فيصير كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وهم يد على من سواهم" وقال غيره: معناه فادخلي في جسم عبدي.
اللغة: الفجر شقّ عمود الصبح فجره الله لعباده فجراً إذا أظهره في أفق المشرق مبشراً بإدبار الليل المظلم وإقبال النهار المضيء وهما فجران أحدهما: الفجر المستطيل وهو الذي يصعد طولاً كذنب السرحان ولا حكم له في الشرع والآخر: هو المستطير المنتشر في أفق السماء وهو الذي يحرم عنده الأكل والشرب لمن أراد أن يصوم في شهر رمضان وهو ابتداء اليوم والحجر العقل وأصله المنع يقال حجر القاضي على فلان ماله أي منعه من التصرف فيه فالعقل يمنع من المقبحات ويزجر عن فعلها والعماد جمعه عمد وهو ما تبنى به الأبنية ويستعمل في القوة والشرف يقال فلان رفيع العماد قال:

وَنَحْــنُ إذا عِمَادُ الْبَيْتِ خَرَّتْ عَلَى الأخْفاضِ نَمْنَعُ مَنْ يَلِينا

والجواب القطع قال النابغة:

أَتاكَ أَبُـو لَيْلى تَجُوبُ بـهِ الدُّجى دُجَى اللَّيْلِ جَوابَ الْفَلاةِ غَشَمْشَمُ

والغشمشم الطويل والسوط معروف قال الفراء: السوط اسم للعذاب وإن لم يكن ثم ضرب بسوط وأصل السوط خلط الشيء بعضه ببعض فكأن السوط قسط عذاب يخالط اللحوم والدماء كما يخالطهما السوط قال الشاعر:

أَحارِثُ أنّا لَوْ تُشاطُ دِماؤُنا تَزايَلْنَ حَتّى لا يَمَسّ دَمٌ دَما

والمرصاد الطريق مفعال من رصده يرصده رصداً إذا راعى ما يكون منه ليقابله بما يقتضيه واللم الجمع ولممت ما على الخوان ألمّه لمّاً إذا أكلته أجمع كأنه يأكل ما ألمَّ به ولا يميز شيئاً من شيء والجم الكثير العظيم وجمة الماء معظمه وجم الماء في الحوض إذا اجتمع وكثر قال زهير:

فَلمَّا وَرَدْنَ الْماءَ زُرْقاً جِمامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ الْمُتَخيِّمِ

والدك حط المرتفع بالبسط يقال: اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك ومنه الدكان لاستوائه قال:

لَيْتَ الْجِبال تَداعَتْ عَنْدَ مَصْرَعِها دَكّـاً فَلَـمْ يَبْقَ مِنْ أحْجَارِها حَجَرُ

والوثاق الشدّ وأوثقته شددته.
الإعراب: جواب القسم قوله { إن ربك لبالمرصاد }. وقيل: جوابه محذوف تقديره ليقبضن على كل ظالم أو لينتصفن كل مظلوم من ظالمه أما رأيت كيف فعلنا بعاد وفرعون وثمود لما ظلموا وأجري ارم على عاد عطف بيان أو على البدل ولا يجوز أن يكون صفة لأنه غير مشتق وإنما لا ينصرف إرم للتعريف والتأنيث ألا ترى إلى قوله { ذات العماد } ومن أضاف فقال بعاد إرم في الشواذ فإنه عنده بمنزلة قولهم زيد بطة لأنه لقب فيضاف إليه الاسم وثمود في موضع جرّ أي وبثمود لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة على طعام المسكين تقديره على إطعام طعام المسكين فحذف المضاف ويجوز أن يكون طعام اسماً أقيم مقام الإطعام كقول لبيد:

باكَرْتُ حاجَتَهَا الدُّجاجَ بِسَحْرَةٍ لأُعِــلَّ مِنْهــا حِيــنَ هَبَّ نِيامُها

أي لاحتياجي إليها فهو مفعول له والتراث أصله الوارث من ورثت ولكن التاء تبدل من الواو ومثله تجاه أصله وجاه من واجهه وجواب إذا في قوله { إذا دكّت الأرض } قوله { فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد } وقوله { صفاً صفاً } مصدر وضع موضع الحال أي مصطفين.
المعنى: { والفجر } أقسم الله سبحانه بفجر النهار وهو انفجار الصبح كل يوم عن عكرمة والحسن والجبائي ورواه أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: هو فجر ذي الحجة لأن الله تعالى قرن الأيام به فقال.
{ وليال عشر } وهي عشر ذي الحجة عن مجاهد والضحاك. وقيل: فجر أول المحرم لأنه تتجدَّد عنده السنة عن قتادة. وقيل: يريد فجر يوم النحر لأنه يقع فيه القربان ويتصل بالليالي العشر عن أبي مسلم. وقيل: أراد بالفجر النهار كله عن ابن عباس وليال عشر يعني العشر من ذي الحجة عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك والسدي وروي ذلك مرفوعاً شرفها الله ليسارع الناس فيها إلى عمل الخير. وقيل: هي العشر الأواخر من شهر رمضان في رواية أخرى عن ابن عباس. وقيل: إنها عشر موسى للثلاثين ليلة التي أتمها الله بها.
{ والشفع والوتر } يعني الزوج والفرد من العدد كله عن الحسن قال أبو مسلم هو تذكير بالحساب لعظم ما فيه من النفع والنعم بما يضبط به من المقادير. وقيل: الشفع والوتر كل ما خلقه الله تعالى لأن جميع الأشياء إما زوج وإما فرد عن ابن زيد والجبائي. وقيل: الشفع الخلق لأنه قال وخلقناكم أزواجاً والوتر الله تعالى عن عطية العوفي وأبي صالح وابن عباس ومجاهد وهي رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الشفع والوتر الصلاة ومنها شفع ومنها وتر وهي رواية ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة عن ابن عباس وعكرمة والضحاك وهي رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم والوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده وينفرد يوم عرفة بالموقف. وقيل: الشفع يوم التروية والوتر يوم عرفة وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقيل: إن الشفع والوتر في قول الله عز وجل فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه فالشفع النفر الأول والوتر يوم النفر الأخير وهو الثالث.
وأما الليالي العشر فالثماني من ذي الحجة وعرفة والنحر عن ابن الزبير. وقيل: الوتر آدم شفع بزوجته عن ابن عباس. وقيل: الشفع الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة عن مقاتل بن حيان. وقيل: الشفع صفات المخلوقين وتضادها العزّ والذلّ والوجود والعدم والقدرة والعجز والعلم والجهل والحياة والموت والوتر صفة الله تعالى إذ هو الموجود لا يجوز عليه العدم والقادر لا يجوز عليه العجز والعالم لا يجوز عليه الجهل والحيّ لا يجوز عليه الموت. وقيل: الشفع علي وفاطمة (ع) والوتر محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام.
{ والليل إذا يسر } اختلفوا في المراد به على وجهين أحدهما: أنه أراد جنس الليالي كما قال والليل إذ أدبر أقسم بالليل إذ يمضي بظلامه فيذهب حتى ينقضي بالضياء المبتدىء ففي سيره على المقادير المرتبة ومجيئه بالضياء عند تقضيه أدل دلالة على أن فاعله يختص بالعز والجلال ويتعالى عن الأشباه والأمثال. وقيل: أنه إنما أضاف السير إليه لأن الليل يسير بمسير الشمس في الفلك وانتقالها من أفق إلى أفق. وقيل: إذا يسري إذا جاء وأقبل إلينا ويريد كل ليلة عن قتادة والجبائي.
والوجه الآخر: أن المراد به ليلة بعينها تمييزاً لها من بين الليالي ثم قيل إنها ليلة المزدلفة لاختصاصها باجتماع الناس فيها بطاعة الله تعالى وفيها يسري الحاج من عرفة إلى المزدلفة ثم يصلي الغداة بها ويغدو منها إلى منى عن مجاهد وعكرمة والكلبي.
{ هل في ذلك قسم لذي حجر } أي هل فيما ذكر من الأقسام مقنع لذي عقل ولبّ يعقل القسم والمقسم به وهذا تأكيد وتعظيم لما وقع القسم به والمعنى أن من كان ذا لبّ علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله توضح عن عجائب صنعه وبدائع حكمته ثم اعترض بين القسم وجوابه بقوله { ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد } وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه للكفار على ما فعله سبحانه بالأمم السالفة لما كفرت بالله وبأنبيائه وكانت أطول أعماراً وأشدّ قوة وعاد قوم هود واختلفوا في إرم على أقوال.
أحدها: أنه اسم لقبيلة قال أبو عبيدة: هما عادان فالأولى هي إرم وهي التي قال الله تعالى فيهم وأنه أهلك عاداً الأولى. وقيل: هو جد عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح عن محمد بن إسحاق. وقيل: هو سام بن نوح نسب عاد إليه عن الكلبي. وقيل: إرم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك وكانوا بمهرة وكان عاد أباهم عن مقاتل وقتادة.
وثانيها: أن إرم اسم بلد ثم قيل هو دمشق عن ابن سعيد المقري وسعيد بن المسيب وعكرمة. وقيل: هو مدينة الإسكندرية عن محمد بن كعب القرظي. وقيل: هو من مدينة بناها شداد بن عاد فلما أتمّها وأراد أن يدخلها أهلكه الله بصيحة نزلت من السماء.
وثالثها: أنه ليس بقبيلة ولا بلد بل هو لقب لعاد وكان عاد يعرف به عن الجبائي وروي عن الحسن أنه قرأ بعادٍ إرم على الإضافة. وقيل: هو اسم آخر لعاد وكان له اسمان ومن جعله بلداً فالتقدير في الآية بعاد صاحب إرم قوله ذات العماد يعني أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم عن ابن عباس في رواية عطاء والكلبي عن قتادة. وقيل: معناه ذات الطول والشدة عن ابن عباس ومجاهد من قول العرب رجل معمد للطويل ورجل طويل العماد أي القامة.
ثم وصفهم سبحانه فقال { التي لم يخلق مثلها في البلاد } أي لم يخلق في البلاد مثل تلك القبيلة في الطول والقوة وعظم الأجسام وهم الذين قالوا من أشدّ منا قوة وروي أن الرجل منهم كان يأتي بالصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم. وقيل: ذات العماد أي ذات الأبنية العظام المرتفعة عن الحسن وقال ابن ذات العماد في أحكام البنيان التي لم يخلق مثلها أي مثل أبنيتها في البلاد.
قصة إرم ذات العماد
قال وهب بن منبه: خرج عبد الله بن قلابة في طلب إبل له شردت فبينا هو في صحارى عدن إذ هو قد وقع في مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال فلما دنا منها ظنَّ أن فيها أحداً يسأله عن إبله فنزل عن دابته وعقلها وسلَّ سيفه ودخل من باب الحصن فلما دخل الحصن فإذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما والبابان مرصعان بالياقوت الأبيض والأحمر فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا هو قصور كل قصر فوقه غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت ومصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة يقابل بعضها بعضاً مفروشة كلها باللآلىء وبنادق من مسك وزعفران.
فلما رأى الرجل ما رأى ولم ير فيها أحداً هاله ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو بشجر في كل زقاق منها قد أثمرت تلك الأشجار وتحتها أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة كل قناة أشدُّ بياضاً من الشمس فقال الرجل والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ما خلق الله مثل هذه في الدنيا وأن هذه هي الجنة التي وصفها الله تعالى في كتابه فحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ومن ياقوتها شيئاً وخرج ورجع إلى اليمن فأظهر ما كان معه.
وعلم الناس أمره فلم يزل ينمو أمره حتى بلغ معاوية خبره فأرسل في طلبه حتى قدم عليه فقصَّ عليه القصة فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه قال يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال نعم أخبرك بها وبمن بناها إنما بناها شداد بن عاد فأما المدينة فإرم ذات العماد التي وصفها الله تعالى في كتابه وهي التي لم يخلق مثلها في البلاد قال معاوية: فحدثني حديثها.
فقال إن عاداً الأولى ليس بعاد قوم هود وإنما هود وقوم هود ولد ذلك وكان عاد له ابنان شداد وشديد فهلك عاد فبقيا وملكا فقهرا البلاد وأخذاها عنوة ثم هلك شديد وبقي شداد فملك وحده ودانت له ملوك الأرض فدعته نفسه إلى بناء مثل الجنة عتواً على الله سبحانه فأمر بصنعة تلك المدينة إرم ذات العماد وأمر على صنعتها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان وكتب إلى كل ملك في الدنيا أن يجمع له ما في بلاده من الجواهر وكان هؤلاء القهارمة أقاموا في بنيانها مدة طويلة فلما فرغوا منها جعلوا عليها حصناً وحول الحصن ألف قصر ثم سار الملك إليها في جنده ووزرائه فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عز وجل عليه وعلى من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً ولم يبق منهم أحد وسيدخلها في زمانك رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له في تلك الصحارى والرجل عند معاوية.
فالتفت كعب إليه وقال هذا والله ذلك الرجل ثم قال سبحانه { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } أي وكيف فعل بثمود الذين قطعوا الصخر ونقبوها بالوادي الذي كانوا ينزلونه يعني وادي القرى.
قال ابن عباس: كانوا ينحتون الجبال فيجعلون منها بيوتاً كما قال الله تعالى
{ { وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } [الشعراء: 149].
{ وفرعون } أي وكيف فعل فرعون الذي أرسل إليه موسى { ذي الأوتاد } أي ذي الجنود الذين كانوا يشيدون أمره عن ابن عباس وسمّاهم أوتاداً لأنهم قواد عسكره الذين بهم قوام أمره. وقيل: كان يشدّ الرجل بأربعة أوتاد على الأرض إذا أراد تعذيبه ويتركه حتى يموت عن مجاهد وعن ابن مسعود قال وتد امرأته بأربعة أوتاد ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت وقد مرَّ بيانه في سورة ص.
{ الذين طغوا في البلاد } يعني عاداً وثمود وفرعون طغوا أي تجبروا في البلاد على أنبياء الله وعملوا فيها بمعصية الله { فأكثروا فيها } أي في الأرض أو في البلاد { الفساد } أي القتل والمعصية عن الكلبي.
ثم بيَّن سبحانه ما فعله بهم عاجلاً بأن قال { فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب } أي فجعل سوطه الذي ضربهم به العذاب عن الزجاج. وقيل: معناه صبَّ عليهم قسط عذاب كالعذاب بالسوط الذي يعرف أراد ما عذبوا به. وقيل: إن كل شيء عذب الله به فهو سوط فأجرى على العذاب اسم السوط مجازاً عن قتادة شبَّه سبحانه العذاب الذي أحلّه بهم وألقاه عليهم بانصباب السوط وتواتره على المضروب حتى يهلكه.
{ إن ربك لبالمرصاد } أي عليه طريق العباد فلا يفوته أحد عن الكلبي والحسن وعكرمة والمعنى أنه لا يفوته شيء من أعمالهم لأنه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم كما لا يفوت من هو بالمرصاد.
وروي عن علي (ع) أنه قال معناه إن ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم وعن الصادق (ع) أنه قال المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد وقال عطاء: يعني يجازي كل واحد وينتصف من الظالم للمظلوم. وقيل لأعرابي: أين ربك قال بالمرصاد وليس يريد به المكان فقد سئل علي (ع) أين كان ربنا قبل أن خلق السماوات والأرض فقال أين سؤال عن مكان وكان الله ولا مكان وروي عن ابن عباس في هذه الآية قال إن على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عندها أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم فإن جاء بها تامة جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
ثم قسَّم سبحانه أحوال البشر فقال { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } أي اختبره وامتحنه بالنعمة { فأكرمه } بالمال { ونعَّمه } بما وسَّع عليه من أنواع الإفضال { فيقول ربي أكرمن } فيفرح بذلك ويسرُّ ويقول ربي أعطاني هذا لكرامتي عنده ومنزلتي لديه أي يحسب أنه كريم على ربه حيث وسع الدنيا عليه.
{ وأما إذا ما ابتلاه } بالفقر والفاقة { فقدر } أي فضيق وقتر { عليه رزقه } وجعله على قدر البلغة { فيقول ربي أهانن } أي فيظن أن ذلك هو أن من الله ويقول ربي أذلَّني بالفقر.
ثم قال { كلا } أي ليس كما ظن فإني لا أغني المرء لكرامته عليَّ ولا أفقره لمهانته عندي ولكني أوسع على من أشاء وأضيق على من أشاء بحسب ما توجبه الحكمة ويقتضيه الصلاح ابتلاء بالشكر والصبر وإنما الإكرام على الحقيقة يكون بالطاعة والإهانة تكون بالمعصية.
ثم بيَّن سبحانه ما يستحق به الهوان فقال بل إنما أهنت من أهنت لأنهم عصوني ثم فصَّل العصيان فقال { بل لا تكرمون اليتيم } وهو الطفل الذي لا أب له أي لا تعطونهم مما أعطاكم الله حتى تغنوهم عن ذلّ السؤال وخصَّ اليتيم لأنهم لا كافل لهم يقوم بأمرهم وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وأشار بالسبابة والوسطى قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون في حجر أمية بن خلف يتيماً وكان يدفعه عن حقه فعلى هذا فإنه يحتمل معنيين أحدهما: أنكم لا تحسنون إليه والآخر: أنكم لا تعطونه حقه من الميراث على ما جرت به عادة الكفار من حرمان اليتيم ما كان له من الميراث.
{ ولا تحضّون على طعام المسكين } أي ولا تحثّون على إطعامه ولا تأمرون بالتصدق عليه ومن قرأ لا تحاضون أراد لا يحضّ بعضكم بعضاً على ذلك والمعنى أن الإهانة ما فعلتموه من ترك إكرام اليتيم ومنع الصدقة من الفقير لا ما توهمتموه. وقيل: إن المراد إنما أعطيتكم المال لذلك فإذا لم تفعلوه فذلك يوجب إهانتكم { وتأكلون التراث } أي الميراث. وقيل: أموال اليتامى عن أبي مسلم قال ولم يرد الميراث الحلال لأنه لا يلام آكله عليه قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أموالهم. وقيل: يأكلون الميراث فيما يشتهون ولا يتفكرون في إخراج ما أوجب الله عليهم من الحقوق فيه { أكلاً لمّاً } شديداً تلمون جميعه في الأكل. وقيل: هو أن يأكل نصيبه ونصيب غيره عن الحسن. وقيل: هو أن يأكل ما يجده ولا يفكر فيما يأكله من خبيث وطيب عن ابن زيد.
{ وتحبون المال حبّاً جمّاً } أي كثيراً شديداً عن ابن عباس ومجاهد والمعنى تحبّون جمع المال وتولعون به فلا تنفقونه في خير. وقيل: يحبّون كثرة المال من فرط حرصهم فيجمعونه من غير وجهه ويصرفونه في غير وجهه ولا يتفكرون في العاقبة.
ثم قال سبحانه { كلا } أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا وقال مقاتل: معناه لا يفعلون ما أمروا به في اليتيم والمسكين. وقيل: كلاّ زجر تقديره لا تفعلوا هكذا.
ثم خوَّفهم فقال { إذا دكّت الأرض دكاً دكاً } أي كسر كل شيء على ظهرها من جبل أو بناء أو شجر حتى زلزلت فلم يبق عليها شيء يفعل ذلك مرة بعد مرة. وقيل: دكت الأرض أي مدّت يوم القيامة مدّ الأديم عن ابن عباس. وقيل: دقَّت جبالها وأنشازها حتى استوت عن ابن قتيبة والمعنى استوت في انفراشها وذهاب دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحراء الملساء.
{ وجاء ربك } أي أمر ربك وقضاؤه ومحاسبته عن الحسن والجبائي. وقيل: جاء أمره الذي لا أمر معه بخلاف حال الدنيا عن أبي مسلم. وقيل: جاء جلائل آياته فجعل مجيئها مجيئه تفخيماً لأمرها وقال بعض المحققين المعنى وجاء ظهور ربك لضرورة المعرفة به لأن ظهور المعرفة بالشيء يقوم مقام ظهوره ورؤيته ولما صارت المعارف بالله في ذلك اليوم ضرورية صار ذلك كظهوره وتجليه للخلق فقيل جاء ربك أي زالت الشبهة وارتفع الشك كما يرتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه جلَّ وتقدس عن المجيء والذهاب لقيام البراهين القاهرة والدلائل الباهرة على أنه سبحانه ليس بجسم.
{ والملك } أي وتجيء الملائكة { صفاً صفاً } يريد صفوف الملائكة وأهل كل سماء صفّ على حدة عن عطاء وقال الضحاك: أهل كل سماء إذا زلزلوا يوم القيامة كانوا صفاً محيطين بالأرض وبمن فيها فيكون سبع صفوف فذلك قوله { صفاً صفاً }. وقيل: معناه مصطفين كصفوف الناس في الصلاة يأتي الصف الأول ثم الصف الثاني ثم الصف الثالث ثم على هذا الترتيب لأن ذلك أشبه بحال الاستواء من التشويش فالتعديل والتقويم أولى.
{ وجيء يومئذٍ بجهنم } أي وأحضرت في ذلك اليوم جهنم ليعاقب بها المستحقون لها ويرى أهل الموقف هولها وعظم منظرها وروي مرفوعاً عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت هذه الآية تغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه حتى اشتدَّ على أصحابه ما رأوا من حاله وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالب (ع) فقالوا يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء علي (ع) فاحتضنه من خلفه وقبّل بين عاتقيه ثم قال يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم قال:
"جاء جبرائيل (ع) فأقرأني { وجيء يومئذ بجهنم } قال فقلت كيف يجاء بها قال يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ثم أتعرض لجهنم فتقول ما لي ولك يا محمد فقد حرَّم الله لحمك عليَّ فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي وأن محمداً يقول رب أمتي" .
ثم قال سبحانه { يومئذ } يعني يوماً يجاء بجهنم { يتذكر الإنسان } أي يتّعظ ويتوب الكافر { وأنّى له الذكرى } أي ومن أين له التوبة عن الزجاج. وقيل: معناه يتذكر الإنسان ما قصر وفرط إذ يعلم يقيناً ما قد توعد به فكيف ينفعه التذكر أثبت له التذكر ثم نفاه بمعنى أنه لا ينتفع به فكأنه لم يكن وكان ينبغي له أن يتذكر في وقت ينفعه ذلك فيه.
ثم حكى سبحانه ما يقول الكافر والمفرط الجاني على نفسه ويتمنّاه بقوله { يقول يا ليتني قدَّمت لحياتي } أي يتمنى أن يكون قد كان عمل الطاعات والحسنات لحياته بعد موته أو عملها للحياة التي تدوم له بقوله يا ليتني قدَّمت لحياتي العمل الصالح لآخرتي التي لا موت فيها.
ثم قال سبحانه { فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد } أي لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق { ولا يوثق وثاقه أحد } أي وثاق الله أحد من الخلق فالمعنى لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الكافر يومئذٍ ولا يوثق أحد في الدنيا بمثل وثاق الله الكافر يومئذٍ وأما القراءة بفتح العين في يعذب ويوثق فقد وردت الرواية عن أبي قلابة قال اقرأني من أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } والمعنى لا يعذب أحد تعذيب هذا الكافر إن قلنا إنه كافر بعينه أو تعذيب هذا الصنف من الكفار وهم الذين ذكروا في قوله { لا يكرمون اليتيم } الآيات وهذا وأن أطلق فالأولى أن يكون المراد التقييد لأنا نعلم أن إبليس أشدّ عذاباً ووثاقاً منه. وقيل: معناه لا يؤاخذ بذنبه غيره والتقدير لا يعذب أحد بعذابه لأنه المستحق بعذابه ولا يؤاخذ الله أحداً بجرم غيره.
{ يا أيتها النفس المطمئنة } بالإيمان المؤمنة الموقنة المصدّقة بالثواب والبعث والطمأنينة حقيقة الإيمان عن الحسن ومجاهد. وقيل المطمئنة الآمنة بالبشارة بالجنة عند الموت ويوم البعث عن ابن زيد. وقيل النفس المطمئنة التي يبيض وجهها ويعطى كتابها بيمينها فحينئذ تطمئنُّ عن الكلبي وأبي روق.
{ ارجعي إلى ربك } أي يقال لها عند الموت عن أبي صالح. وقيل: عند البعث عن عكرمة والضحاك ارجعي إلى ثواب ربك وما أعدَّه لك من النعيم عن الحسن. وقيل: إرجعي إلى الموضع الذي يختص الله سبحانه وبالأمر والنهي فيه دون خلقه. وقيل: إن المراد ارجعي إلى صاحبك وجسدك فيكون الخطاب للروح أن ترجع إلى الجسد عن ابن عباس.
{ راضية } بثواب الله { مرضية } أعمالها التي عملتها. وقيل: راضية عن الله بما أعدَّ الله لها مرضية رضي عنها ربها بما عملت من طاعته. وقيل: راضية بقضاء الله في الدنيا حتى رضي الله عنها ورضي بأفعالها واعتقادها { فادخلي في عبادي } أي في زمرة عبادي الصالحين المصطفين الذين رضيت عنهم وهذه نسبة تشريف وتعظيم { وادخلي جنتي } التي وعدتكم بها وأعددت نعيمكم فيها.
النظم: وجه اتصال قوله فأما الإنسان الآية بما قبله فيه قولان أحدهما: أنه يتصل بقوله { إن ربك لبالمرصاد } أي هو بالمرصاد لأعمالهم لا يخفى عليه شيء من مصالحهم فإذا أكرم أحداً منهم بنوع من النعم التي هي الصحة والسلامة والمال والبنون امتحاناً واختباراً ظنَّ ذلك واجباً وإذا قتر عليه رزقه ظنَّ ذلك إهانة له وإنما يفعل سبحانه جميع ذلك للمصالح عن أبي مسلم والثاني: أن المعنى بالمرصاد لهم يتعبده بما هو الأصلح لهم وأنهم يظنون أنه يبتدىء عباده بالإكرام والإهانة وليس كذلك بل هما مستحقان ولا يدخل العباد تحت الاستحقاق إلا بعد التكليف وأما قوله { بل لا تكرمون اليتيم } فوجه اتصاله بما قبله أنه ردَّ عليهم ظنهم أنه ضيق عليهم أرزاقهم على وجه الإهانة فبيَّن سبحانه أن الإهانة لما ذكره لا لما قالوه.