التفاسير

< >
عرض

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ
٢٠
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ
٢١
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٢
-التوبة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: في قراءة محمد بن علي الباقر (ع) وابن الزبير وأبي وجرة السواري وأبي جعفر السعدي القارئ أجعلتم سُقاة الحاج وعمَرة المسجد الحرام وقرأ الضحاك سُقاية الحاج بالضم وعَمَرة المسجد.
الحجة: أما سقاة فهو جمع ساق وعمرة عامر وأما سقاية فقد قال ابن جني فيه نظر ووجهه أن يكون جمعاً جاء على فعال كعرق وعُراق ورِخْل ورُخال وظِئْر وظُؤار وتَوْم وتُوام وبرئ وبُراء وإنسان وأُناس ثم أنَّت كما يؤنَّث من الجموع أشياء نحو حجارة وعُيُورة وكأن من عدل عن قراءة الجماعة سقاية الحاج وعمارة المسجد إلى هذا إنما هرب من أن يقابل الحدث بالجواهر وذلك أن من آمن جوهر وسقاية وعمارة مصدران فلا بدَّ إذن من حذف المضاف أي أجعلتم هذين الفعلين كفعل من آمن بالله فلما رأى أنه لا بدَّ من حذف المضاف قرأ سقاة وعمرة على ما مضى.
اللغة: السِّقاية آلة تتخذ لسَقي الماء والسِّقاية مصدر كالسَقْي أيضاً. وقيل: إنهم كانوا يسقون الحجيج الماء والشراب وبيت البئر سقاية أيضاً. والبشارة الدلالة على ما يظهر به السرور في بشرة الوجه كما يقال: بشَّرته أبشّرهُ بُشرى ورضوان: هو معنى يستحق بالإحسان ويدعو إلى الحمد على ما كان ويضاد سخط العصيان والنعيم مشتق من النعمة وهي اللين فأما النعمة بكسر النون فهي منفعة يستحق بها الشكر لأنها كنعمة العيش وأبداً للزمان المستقبل من غير آخر كما أن قطُّ للماضي يقال: ما رأيته قطُّ ولا أراه أبداً وجمع الأبد آباد وأبود. يقال: لا أفعل ذلك أبد الأبيد وأبد الآبدين وتأبَّد المنزل أتى عليه والأوابد الوحش سميت بذلك لطول أعمارها. وقيل: لم يمت وحشي حتف أنفه وإنما يموت بآفة والآبدة الداهية.
النزول: قيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه ولو أشاء بت فيه وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال علي (ع): ما أدري ما تقولان لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد عن الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي. وقيل: إن علياً (ع) قال للعباس: يا عم ألا تهاجر وألا تلحق برسول الله فقال ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام وأسقي حاج بيت الله فنزلت أجعلتم سقاية الحاج عن ابن سيرين ومرة الهمداني. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن بريدة عن أبيه قال: بينا شيبة والعباس يتفاخران إذا مرَّ بهما علي بن أبي طالب (ع) فقال: بماذا تتفاخران فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤتّ أحد سقاية الحاج وقال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام فقال علي (ع) استحييت لكما فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا. فقالا: وما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله فقام العباس مغضباً يجرُّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟ فقال: "ادعوا لي علياً" فدعي له فقال: "ما حملك على ما استقبلت به عمّك" فقال: يا رسول الله صدمته بالحق فمن شاء فليغضب ومن شاء فليرض فنزل جبرائيل (ع) فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: أُتل عليهم { أجعلتم سقاية الحاج } الآيات فقال العباس إنا قد رضينا ثلاث مرات وفي تفسير أبي حمزة أن العباس لما أسر يوم بدر أقبل عليه أناس من المهاجرين والأنصار فعيَّروه بالكفر وقطيعة الرحم. فقال: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا. قالوا: وهل لكم من محاسن. قال: نعم والله لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفكّ العاني فأنزل الله تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا } إلى آخر الآيات.
المعنى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله } هذا استفهام معناه الإنكار أي لا تجعلوا وفيه حذف يدلُّ الكلام عليه وتقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله حتى يكون مقابلة الشخص بالشخص أو يكون تقديره أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان من آمن بالله حتى تكون مقابلة الفعل بالفعل وسقاية الحاج سقيهم الشراب قال الحسن: وكان نبيذ زبيب يسقون الحاج في الموسم بيَّن الله سبحانه أنه لا يقل هذه الأشياء بالإيمان بالله { واليوم الآخر } وبالجهاد في سبيله فإنه لا مساواة بين الأمرين { لا يستوون عند الله } في الفضل والثواب: { والله لا يهدي } إلى طريق ثوابه { القوم الظالمين } كما يهدي إليه من كان عارفاً به فاعلاً لطاعته مجتنباً لمعصيته.
ثم ابتدأ سبحانه فقال { الذين آمنوا } أي صدَّقوا واعترفوا بوحدانية الله { وهاجروا } أوطانهم التي هي دار الكفر إلى دار الإسلام { وجاهدوا في سبيل الله } أي تحملوا المشاق في ملاقاة أعداء الدين: { بأموالهم وأنفسهم اعظم درجة عند الله } من غيرهم من المؤمنين الذين لم يفعلوا هذه الأشياء: { وأولئك هم الفائزون } أي الظافرون بالبغية: { يبشِّرهم ربهم } برحمة في الدنيا على ألسنة الرسل وبما بيَّن في كتبه من الثواب الموعود على الجهاد { برحمة منه ورضوان } في الآخرة { وجنات لهم فيها نعيم مقيم } أي دائم لا يزول ولا ينقطع: { خالدين فيها أبداً } أي دائمين فيها مع كون النعيم مقيماً لهم { إن الله عنده أجر } أي جزاء على العمل: { عظيم } أي كثير متضاعف لا يبلغه نعمة غيره من الخلق.