التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣١
-التوبة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وسهل { عزير } منونا والباقون { عزير ابن الله } بغير تنوين وقرأ عاصم وحده { يضاهئون } وقرأ الباقون يضاهون بغير الهمزة.
الحجة: قال أبو علي: من نوَّن عزيراً جعله مبتدأ وجعل ابناً خبره وإذا كان كذلك فلا بدَّ من إثبات التنوين في حال السعة والاختيار لأن عزيراً ونحوه ينصرف عجمياً كان أو عربياً وأما من حذف التنوين فإنه حذفه على وجهين:
أحدهما: أنه جعل الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد كما جعلهما كذلك في قولـه لا رجل ظريف وحذف التنوين ولم يحرّك لالتقاء الساكنين كما يحرّك لكثرة الاستعمال ولا يجوز إثبات التنوين في هذا الباب إذا كان صفة وإن كان الأَصل لأَنهم جعلوا من الأُصول المرفوضة كما أن إظهار الأَول من المثلين في نحو ظنوا لا يجوز في الكلام فإذا كانا بمنزلة اسم مفرد والمفرد لا يكون جملة مستقلة بنفسها مفيدة في هذا النحو فلا بدَّ من إضمار جزء آخر يقدر انضمامه إليه ليتمّ جملة ويجعله الظاهر إما مبتدأ أو خبر مبتدأ فيكون التقدير صاحبنا أو نبينا عزير ابن الله إن قدرت المضمر المبتدأ وإن قدرت بعكس ذلك جاز فهذا أحد الوجهين والوجه الآخر أن لا تجعلهما اسماً واحداً ولكن يجعل الأَول من الاسمين المبتدأ والآخر الخبر فيكون المعنى فيه على هذا كالمعنى في إثبات التنوين وتكون القراءتان متفقتين إلا أنك حذفت التنوين لالتقاء الساكنين وعلى هذا ما يروي من قراءة بعضهم أحد الله الصمد فحذف التنوين لالتقاء الساكنين وقد جاء ذلك في الشعر كثيراً قال الشاعر:

حُمَيْــــدُ الَّــــذي أَمَــــجٌ دارُهُ أَخُو الخَمْر ذوُ الشَّيْبَةِ الأَصْلَعُ

وقال:

"وحاتم الطَّائيّ وَهَّابُ المِئي"

فأما يضاهئون فقد قال الزجاج أصل المضاهاة المشابهة والأَكثر ترك الهمزة واشتقاقه من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل: هي التي لا تحيض ومعناها أنها قد أشبهت الرجال في أنه لا ثدي لها وكذلك إذا لم تحض وضهياء فعلاء الهمزة زائدة كما زيدت في شمأل وغرقئ البيض ولا نعلم الهمزة زيدت غير أول إلا في هذه الأَشياء ويجوز أن يكون فَعْيَلاً وإن كانت بنية ليس لها في الكلام نظير قال أبو علي: ليس قولـه { يضاهئون } من امرأة ضهياء لأَن هذه الهمزة زائدة غير أصلية وليس بفعيل لأنه لو كان إياه لكان مكسور الصدر وإنما أدخله في هذا ما رامه من اشتقاق يضاهئون وقد يجوز أن تجئ الكلمة من غير مشتقة وذلك أكثر من أن يحصى.
اللغة: الحبر العالم الذي صنعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها وهو الحبرَ والحِبر بفتح الحاء وكسرها والرهبان جمع الراهب وهو الخاشي الذي يظهر عليه لباس الخشية وقد كثر استعماله على متنسكي النصارى.
المعنى: ثم حكى الله سبحانه عن اليهود والنصارى أقوالهم الشنيعة فقال { وقالت اليهود عزير ابن الله }. وقال ابن عباس: القائل لذلك جماعة منهم جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشأس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك قيل وإنما قال ذلك جماعة منهم من قبل وقد انقرضوا وان عزيراً أملى التوراة من ظهر قلبه وقد علمه جبرائيل (ع) فقالوا إنه ابن الله إلا أن الله تعالى أضاف ذلك إلى جميعهم وإن كانوا لا يقولون ذلك اليوم كما يقال: إن الخوارج يقولون بتعذيب أطفال المشركين وإنما يقولـه الأَزارقة منهم خاصة ويدل على أن هذا مذهب اليهود أنهم لم ينكروا ذلك لما سمعوا هذه الآية مع شدة حرصهم على تكذيب الرسول.
{ وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم } معناه إنهم اخترعوا ذلك القول بأفواههم لم يأتهم به كتاب ولا رسول وليس عليه حجة ولا برهان ولا له صحة. وقيل: إنه لم يذكر القول مقروناً بالأَفواه إلا إذا كان ذلك القول زوراً كقولـه
{ { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } [آل عمران: 167] { يضاهئون }: يشابهون عن ابن عباس. وقيل: يوافقون عن الحسن { قول الذين كفروا } يعني عباد الأَوثان في عبادتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى عن ابن عباس ومجاهد والفراء. وقيل: في عبادتهم الملائكة وقولهم إنهم بنات الله { من قبل } أي ضاهت النصارى قول اليهود من قبل فقالت النصارى المسيح ابن الله كما قالت اليهود عزير ابن الله عن قتادة والسدي وقيل: شبَّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأُمم الكافرة عن الحسن.
{ قاتلهم الله } أي لعنهم الله عن ابن عباس. قال ابن الأَنباري: المقاتلة أصلها من القتل فإذا أخبر عن الله بها كانت بمعنى اللعنة لأَن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك { أنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق إلى الإِفك الذي هو الكذب فكأنه قال: لأَيّ داع مالوا إلى ذلك القول { اتخذوا أحبارهم } أي علماءهم { ورهبانهم } أي عبادهم { أرباباً من دون الله } روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: أما والله ما صاموا ولا صلّوا ولكنهم أحلُّوا لهم حراماً وحرَّموا عليهم حلالاً فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون. وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال:
"أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال لي: يا عدي إطرح هذا الوثن من عنقك قال: فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً } حتى فرغ منها فقلت له إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه ويحلَّون ما حرَّم الله فتستحلونه. قال فقلت بلى. قال: فتلك عبادتهم" { والمسيح ابن مريم } أي اتخذوا المسيح إلهاً من دون الله { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } أي معبوداً واحداً هو الله تعالى { لا إله إلا هو } أي لا تحق العبادة إلا له ولا يستحق العبادة سواه { سبحانه } تنزيهاً له { عما يشركون } أي عن شركهم وعما يقولونه وعما لا يليق به.